أحنُّ، وربما مثلي كثيرون حول العالم، لجلسات، أقل ما توصف به، أنها كانت طيبة وهانئة، وربما على سجيتها. جلسات أهل أو محبين أو أقرباء أو أصدقاء، تتبادل البوح والشكوى والضحكة وحتى الدمع. كان هذا يوم كان الكل يجتمع حول الجدة أو الجد والأب والأم، بلهفة اللقاء وعشق الاستماع والتعلم والاستمتاع، ثم ما لبث أن حضر الراديو، ليطغى بأخباره وأحاديثه وأغانيه على صوت الجد والجد. وهذه كانت الصفعة الأولى في بناء الأسرة وحميمية وصلها واجتماعها على الود والمعرفة. وتمضي السنون، ويأتي التلفزيون فيرفس الراديو، ويحل محله، ويُخرس، ليس صوت الجد والجدة، لكن أيضاً صوت الأم والأب حتى الأبناء، الجميع يلتقي ليجلس أمام التلفزيون، ووحده الخرس يجلل الجلسة، ولا يدع إلا صوت التلفزيون، وأخبار التلفزيون، وأفلام التلفزيون، ومسلسلات التلفزيون، ومباريات التلفزيون. الجميع في الصمت والقطيعة ووحدة التلفزيون في الحضور والمزيد من الحضور. وتمضي الأيام، وتأتي مواقع شبكة الإنترنت ومحركات البحث، فتتجزأ الأسرة، ويصبح كل فرد يعيش في عالمه واهتمامه وعزلته. ثم يأتي "ستيف جوبز-Steve Jobs" بعظمة التلفون الذكي ليوجه الضربة القاضية الفنية، ليس للأسرة بل لأي تجمع إنساني حيثما كان. وتتضخم وتتغوّل شبكات التواصل الاجتماعي لتكون حاضرة في أي جلسة خاصة، تلوّن أحاديثها وتجعلها منكشفة على كل ما يدور في العالم، وتجعل العالم منكشفا ومشاركا في كل ما يدور في تلك الجلسة. نعم، لقد انتهى عصر مقولة: العالم "قرية كونية-Global village"، فنحن نعيش اليوم في ما يمكن أن يُطلق عليه تعبير عالم "اللقاء الكوني-Global Meeting"، فأي لقاء حيثما كان، وأياً كان حضوره، وفي أي مكان، هو مرشح لأن ينكشف على أحداث العالم، ويأتي بأخبار العالم إليه، مثلما له القدرة على أن يظهر وينكشف أمام العالم أجمع. وبالتالي، فإن العالم والمفكر العبقري ستيف جوبز، إنما ساهم مساهمة عظيمة وغير مسبوقة في أن يصل العالم بعضه ببعض، لكنه من جهة أخرى، أذاب، بقوة التلفون الذكي، عجينة خصوصية اللقاء الإنساني حتى سالت بانحدار نحو الهاوية ولم تعد موجودة!
وهذا ما يعيشه العالم اليوم حيال "كورونا"، فانكشاف العالم على بعضه البعض، وحضور الخبر العالمي، والرأي العالم، واللقاء العالم، والحدث العالم، أمام جميع سكان الكرة الأرضية، وبعد مرور قرابة ما يزيد على نصف عام على إعلان وباء "كورونا"، جعل العالم يعيش مُشوَّشاً بين حقيقة مرض "كورونا" وبين ما يمكن أن يُدرج تحت "نظرية المؤامرة". فأنا، وهنا أتكلم بشكل شخصي تماماً، لي ابنة طبيبة، وهي تداوم في مستشفيات الكويت، وتواجه كل يوم مرضى يموتون بسبب إصابتهم بالفيروس، وبالتالي هي تنقل إلينا أخباراً حقيقية من الميدان. ناهيك عن خوفنا عليها من أن تمسها أي إصابة، وبالتالي نحن كأسرة صغيرة نعيش خوفنا من كورونا بشكل حقيقي، وبشكل يومي، ومن مصدر لا نشك في صدقه. وفي المقابل أرى دول العالم، بما في ذلك الكويت وطني، تخطو إلى معاودة الحياة الطبيعية، ومعاودة النشاط الإنساني العادي، وأسأل نفسي في كل يوم أي وجه أولي وجهي؟ هل أبقى حبيس بيتي وخوفي، أم أطلق روحي للحياة. ومراراً جاءتني الإجابة ومن كثيرين: كورونا حقيقة واقعة لا مجال لدحضها، وبالتالي لا مجال لإنكارها، ومن هنا يجب التعايش معها، بألا نعود لما كنا عليه، بل نعتاد على جديد، بات يُعرف باسم "الطبيعي الجديد-The New Normal" بأن نأخذ الحيطة والحذر، خصوصا في الكمامة والقفازات، ولا يقل عنهما أهمية التباعد الفيزيائي، أو ما دُرج على تسميته بالتباعد الاجتماعي.لنا أن نعيش لحظتنا بسعادتها وعملها وأملها، ولنا أن نأخذ حذرنا لنصل للحظة أخرى قادمة نحلم بها.
توابل - ثقافات
«كورونا» الرأي المذبذب!
15-07-2020