ميزان العدالة يوازن كفتيه بين اعتبارين لا يمكن له أن يعمل دون أن تشمل كفّتاه كليهما، تركُ أيّ منهما غير سديد، وأخذهما بشكل متوازن غير رشيد، كلاهما له نصيب من كفّتيه، والميل لكفّة القانون والتزام المشروعية هو طوق النجاة لسفينة العدالة في بحر الحقائق المتلاطمة والحجج المتداخلة، وكفّة السياسة فقط لتراعي الواقع بلا غلوّ وتقدّر الظروف والأحوال ومتغيّراتها من دون اندفاع.موازنة دقيقة وخيط رفيع بين ما تُملأُ منه كلتا الكفّتين، لكنّه ينطلق من غاية سامية، وهي إشاعة العدل ودفع الجور، لا طمعاً بمنصب ولا رغبة بمال، تهيمن عليه نفس قنوعة وعقل راجح بالمنطق، فإن نال الخلل من أيّ من الكفتين يتلاشَ العدل ويُحرّف الواقع وتتهافت الحجج، ويحّلُ الظلم وتضعُف النفس ويغلبُ الهوى، ويسود قاضي النار ويتوارى قاضي الجنة.
فالحكمة تستلزم دحر الأول والظّفر بالثاني، فإن فُرّط بميزان العدل وفات الأوان، حلّ الغضب وتذمّرت النفوس وعاد الناس إلى شريعة الغاب ذوداً عن النفس والحقوق، واستحق القضاة اللعنة والسخط الرباني والازدراء الإنساني. ومن هنا ندرك أبعاد الحكمة الخالدة على مرّ الزمان وفِي كل الأنظمة "العدل أساس الملك"، فإذا اختلّ ميزان العدل لم يعد الدستور ينفع، ولا يمكن للقوانين أن تشفع، ولا للدولة أن تردع، ولا أمل لسحابة الظلم أن تُقشَع، ولذلك اهتمت الأمم والشعوب والسلاطين والملوك بتشييد محاريب العدالة وإرساء ميزان العدل لضمان الاستقرار والاستمرار وتماسك أهل الدار، ومن هنا جاءت مقولة رسول كسرى وهو يرى بعينيه خليفة المسلمين، عمر بن الخطاب، مستلقياً قرير العين تحت شجرة بلا حواجز ولا حراسة فقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر".وأنشدها حافظ إبراهيم:أمنتَ لما أقمتَ العدل بينهمُفنمتَ نومَ قريرِ العين هانيهافالقضاء هو حصن الناس وملاذهم، في مواجهة السلطة، وفِي دفع ظلم بعضهم لبعض، وفِي منع التنازع والافتئات والظلم، ولذا نجد أن كلّ من كتب في مفهوم الدولة قديماً أو حديثاً يجعل من أساسيات وظيفتها تشييد القضاء بضمانات تحقّق استقلاله وعدالته ونزاهته، فإذا أقحم طرفاً في الخصومة أو ولج دهاليز السياسة أو صار رديفاً للسلطة أياً كانت ملَكية أو تنفيذية أو تشريعية، فإنّ ميزانه يختلّ وتتأرجح كفّتاه ويبدأ العدل في التواري ويتسلّل الظلم مستظلاً براية القانون الجائر، ولذا نفهم عمق التوجيه الرباني لنا في إحقاق الحق وإقامة العدل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ".ولعل الذي ساد بأوروبا في حقبة القرن الثامن عشر، في ما عُرف بدولة القضاة، أحد الهواجس التي رسخت مفهوم "العدل أساس الملك" لإقصاء القضاء عن هيمنة السلطة، حتى لا تفسده السياسة، فربّما تفسد السلطة وربما تفسد الحكومة وربما يفسد البرلمان، لكنّ الدولة تبدأ بالاضمحلال إذا فسد القضاء، وهو سرّ كلمة تشرشل حينما سأل: وكيف القضاء؟ قالوا بخير، فقال: فالدولة بخير.فطوبى لكل قاضٍ جعل تلك الآيات والمبادئ نُصب عينيه والتزم ذلك في قضائه مدركاً أنه إنّما يؤدي رسالته ودوره بعيداً عن مغنمٍ أو ظفراً بمدحٍ أو رضا، لأنّه يدرك أنه إن اختل قضاؤه وتأرجح ميزانه لن ينفعه صاحب نفوذ ولا مال ولا سلطان، بقدر ما ينفعه أن يكون مرضياً للواحد الديّان، فيكون من قضاة الجنة وبمنأى عن قضاة النار، فالقضاة هم مَن يعيدون الحق لأهله وللدولة هيبتها ويحفظون للسلطان ملكه، فهنيئاً لمن سار على هذا الطريق، وتعساً لمن اختار درباً آخر، وليعلم الجميع أن المَثَل الشهير حقيقة راسخة "دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة".
أخر كلام
القضاء وميزان العدالة
15-07-2020