وتبقى الجريدة هي الملكة
أنتجت الثورة الرقمية الذي لم يكن في الحسبان، وأصبحت محورا فارضا نفسه على جدول أعمال البحوث العلمية من رسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه، ولعل الإشكاليتين اللتين تحتلان المرتبة الأولى في هذا المجال تتمثلان أولاً بانعكاسات الثورة الرقمية على الحق في الخصوصية، وثانيا المجالات والآفاق الجديدة لحرية الرأي والتعبير، وبالنسبة إلى الإشكالية الثانية، بدأ التركيز ينصب على الفضاءات الحديثة للتعبير عن الرأي، إذ لم تعد تفلح السلطات في محاصرة أصحاب الرأي، فوسائل التواصل الاجتماعي، بشكل خاص، فرضت حضورها وشخصيتها على النظم السياسية، خصوصا في دول العالم الثالث، حيث تحول كل مواطن الى صحافي عالمي يعبر عن رأيه تارة، وينقل آراء غيره تارة أخرى، وأحيانا يحرض ضد سلوكيات وقرارات. طبعا المسألة دقيقة للغاية، ويمكن تشبيهها باختراع البارود الذي لم يكن الهدف من اكتشافه التدمير إنما البناء والتنمية والتطوير، لكنه استخدم في المجالين معا، وكأكاديمي لن أتردد في الاستمرار في طرح السؤال: هل بلغنا نحن العرب سن الرشد الرقمي؟بالطبع، الإجابة عن هذا السؤال، غير مرتبطة البتة بالمعرفة التقنية في استخدام الأدوات الرقمية، إنما بالجوع الداخلي للتغيير السياسي، وإذا أردنا عنونة هذا الجوع عربيا بـ"النهم الديمقراطي"، فيمكن عنونته عالميا بـ"الوهم الديمقراطي".
هذا الإسقاط الجدير بالبحث والتنقيب، يرمي مفرداته الواضحة والخطيرة في ملعب ما اصطلح على تسميته بـ"الصحافة الإلكترونية"، الخطير للغاية، وإن أكثر ما يعكس خطورته هو تعبير "الجيش الإلكتروني". درجت كثيرا الجملة التي تقول إنك بكبسة زر واحدة بت تعرف لحظة بلحظة ما يحدث في كل إصقاع العالم، فتعيش الخبر لحظة حدوثه، لكن ماذا لو كان الخبر غير صحيح، وتكون قد بنيت على الشيء مقتضاه، فثار من ثار وقتل من قتل؟ كيف لا وقوة لا منطق هذه الجملة معززة بقوة أخرى وهي اضمحلال المتابعة التلفازية للحدث، في زمن الكلمة الفصل فيه هي للخبر الرقمي؟ المشكلة إذاً تكمن في التالي: كل ما هو غير موثق يفقد المصداقية، فخاصية الحذف، موجودة بكبسة الزر المحاذي للإعجاب أو المشاركة أو الدخول للقراءة.هنا تأخذ "الجريدة" مجدها، فهي الموثق الوحيد وهي الأرشيف الذي يشهد معك وضدك، وعبرها يمكنك ممارسة حق الرد، ومما لا شك فيه أن المسألة غير مرتبطة بالحبر والورق ورومانسية بروتوكولية لم يزل كثيرون متمسكين بها، بقدر ما هي مرتبطة بفلسفة العمل الجرائدي، شكلا ومضمونا. ففي الشكل انتظم فكرك كقارئ على متابعة كاتب معين بعمود معين، وعند شرائك اليومي للجريدة فأنت تفعل ذلك من باب المسؤولية فضلا عن قرارك المسبق بالقراءة المتأنية، والمتكررة أحيانا، لخبر أو مقال أو تقرير، ستبني عليه موقفا أو تغير رأيا، وهذا الذي افتقد في زمن الصحافة الإلكترونية حيث زحمة الأخبار ودس بعضها وكثير منها يكتشف بعد ساعات أنه لقيط أو فتنوي. وفي المضمون، تبرز مسسؤولية مسؤول التحرير ومهامه الدقيقة، في فرز الأخبار وتنقيتها والتأكد من صحتها، كيف لا، والآلاف ينتظرون في صباح الغد الجريدة ليتناولوها إفطارا وقهوة ووطنية، وقد تكون الحديث المحوري لديوانية هنا أو مجلس هناك. الجريدة فكر وثقافة وسياسة ومنطق وفلسفة واقتصاد وكتاب كبار ومرموقون، والجريدة انعكاس لحضارة المجتمع ورأس تراثه السياسي والإعلامي والحضاري، الجريدة ملكة فلا تستبدلوها بجارية، والجريدة عمل تراكمي فلا يجوز استبداله بخبر تراقمي.