الفساد بالطشت
مصير كل إنسان يقوم بأعمال منافية للدين والأخلاق والقانون السجن، وهذا عقاب لكل من تسوّل له نفسه الإضرار ببلده وإفساد المجتمع، وعقاب لكل من تسوّل له نفسه ممارسة المهن غير الشريفة.
كان إنساناً بسيطاً يعيش في قاع المجتمع، ويعمل في ورشة صغيرة في المنطقة الصناعية، وكان "أعزب" وإنتاجه الشهري يسد حاجته، ويقوم بالأعمال المنزلية بنفسه في سكنه المستأجر دون مساعدة من أحد، فيطبخ غذاءه ويكنس المنزل المتواضع ويغسل ملابسه. وفي أحد الأيام وعندما كان يغسل ملابسه المتسخة بالزيوت بسبب عمله بالورشة، سقطت ورقة نقدية من جيب ملابسه، وكانت متسخة بطبيعة الحال نظراً لطبيعة عمله، وغاصت في الطشت المغطى بالصابون والماء، وأخذ يبحث عنها بين الملابس المتكدسة بالطشت حتى عثر عليها أخيراً، وقد تغير لونها لأنها كانت ملوثة بالزيت والآن صارت ناصعة البياض. فكر في نفسه، وقال: لماذا لا أغسل أوراقي النقدية المتسخة دائما في الوقت نفسه الذي أغسل فيه ملابسي في هذا الطشت الصغير؟ أعجبته فكره الغسيل هذه، فأخبر أصدقاءه بالفكرة فشجعوه وأعطوه بعض أموالهم القليلة ليغسلها لهم في طشته المتواضع، وكانوا يعطونه أحيانا بعض الحلويات أو الهدايا البسيطة لقاء عمله هذا، ومع مرور الزمن تزايد زبائنه وذاع صيته في غسيل الأوراق النقدية التي تخرج من الطشت ناصعة البياض كأنها خارجة من المصرف، فنصحه البعض أن يشتري غسالة لأنها أكبر وأسرع في الغسيل، فوقعت عيناه على غسالة كانت مشهورة في الستينيات بغسيلها النظيف ونشافتها السريعة، فاشترى واحدة من ماركة "سيرفس"، وكانت السيدات يستخدمنها في الغسيل، وكثير منهن دخلت أيديهن بالنشافة نظراً لانهماكهن بالحديث مع السيدات الأخريات أثناء استخدام الغسالة. وأخذ هذا الرجل يمارس عمله بغسيل الأوراق النقدية وزاد عمله، ونصحه أصحابه أيضاً أن يشتري مصبغة لأنها أكبر وتلبي حاجة الزبائن، ففعل ذلك لأنه أصبح يملك بعض المال، حتى ذاع صيته بين الناس، وتعدت شهرته إلى خارج بلده، وعقد صفقات وصفقات وكسب الكثير من المال الذي أثار انتباه من يعرفونه عن قرب، فهو الذي كان في قعر المجتمع طفا بسرعة كبيرة إلى الأعلى، وصار من الوجهاء، والكل كان يخطب وده، وفتحت الأبواب على مصراعيها له، وكان لا يُرد له طلب لأن له حظوة وسطوة وواسطة كبيرة في مجتمعه.
وعرف الكثيرون أن هذا الشخص من كبار غاسلي الأموال في البلد، ومع مرور الوقت حدثت المفاجأة الكبرى التي هزت المجتمع بأسره، ففي إحدى ليالي الشتاء الباردة والعواصف الشديدة والرياح التي تزمجر في أنحاء قصره المنيف الذي لم يحلم به، بعد أن كان في ذلك البيت المتواضع مع طشته، وفجأة سمع جلبة وأصواتا كثيرة عند باب القصر، وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه في مواجهة رجال المباحث الذين كانوا يراقبونه منذ مدة، ويراقبون نشاطاته المشبوهة وكانوا له بالمرصاد، فاقتادوه مخفورا، وقُدم للمحكمة التي واجهته بالتهم المنسوبة إليه ولأعوانه بجرم "غسل الأموال" وإفساد المجتمع، وأصدرت المحكمة حكمها العادل له بالسجن. وبما أنه كان مشهورا ويشار إليه بالبنان فإنه صار حديث المدينة واهتمام أجهزة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وذهب إليه أحد الصحافيين ليجري معه لقاء صحافيا في السجن، فأخذ هذا المليونير يتحسر ويلوم نفسه حيث لا ينفع الندم، كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن "وقعت الفاس بالرأس"، وقبل أن ينهي الصحافي اللقاء سأله سؤالا أخيرا: هل لك أقوال أخرى؟ فرد المجرم بتنهيدة قويه: "الله يلعن الطشت وأفعاله، وما جلبه من عار لي ولأسرتي ولبلدي الذي أسأت إليه بعملي الأهوج والأحمق". في النهاية فإن ذلك هو مصير كل إنسان يقوم بأعمال منافية للدين والأخلاق والقانون، وهذا عقاب لكل من تسول له نفسه الإضرار ببلده وإفساد المجتمع، وعقاب لكل من تسول له نفسه ممارسة المهن غير الشريفة لأن مكانه السجن وليس غير ذلك. اللهم احفظ بلدنا من الفاسدين والمفسدين واحم مجتمعنا من هذا الوباء المدمر، إنك سميع الدعاء يارب العالمين.