تجربة الإمارات والعودة إلى الكويت المحررة
ونحن نقترب من 2/ 8/ 1990 جالت في خاطري ذكريات الأمس العصيبة، وهأنذا أسترجع شريطاً منها، وما إن نخرج من أول معبر سوري حتى يوقفك حاجز آخر، وتبقى تعيش بين الحواجز المتنقلة إلى أن تصل إلى آخر نقطة بدرعا باتجاه دمشق، هناك وعلى هذا الحاجز وقف مجموعة من صبية يعرضون السجائر للبيع، ما إن رآهم زميلي حتى استطاب له الشراء وتوقفنا جانباً ودار حديث بيننا عن الثمن ونوعية السجائر، فاختار شراء "كروز مارلبورو" وهو النوع الذي يفضله، دفع ثمنه وعدنا إلى سيارتنا، فتح الكروز ليتناول سيجارة وإذ به يجد نوعاً آخر من السجائر بنوعية رديئة جداً ولاعلاقة له بالمارلبورو، استشاط غضباً وقرر العودة إلى الحاجز من جديد، وهكذا وجدنا أنفسنا أمام سيارة "بيجو" يترجل منها شخصان يتقدمان نحونا ويوجهان كلامهما بصورة استفزازية وبما معناه، إذا لم نسكت ونكمل طريقنا فسيتم حجزنا للتحقيق! أنهينا الشجار مع "الشبيحة" الذين تبين أنهم من عصابات بيع السجائر المهربة وتحت حماية أفراد من الجيش الذين يستخدمون الأطفال الصغار للتغطية! لازمتنا الحواجز الأمنية السورية طوال الطريق، وكل حاجز يختص بناحية، حاجز يفتش عن مواد غذائية وآخر عن عملة صعبة، وثالث عن مبالغ نقدية لتسهيل المرور، وفي هذا الحاجز حصل ما لم يكن بالحسبان، أوقفنا الأمن وانتحى بي جانباً طالبا ما لدي من إكرامية، أجبته نحن صحافيون وخرجنا من الكويت وهي محتلة ولا نحمل مالاً وذاهبون إلى أهلنا في لبنان! وبعد أخذ وعطاء، بادر زميلي بإعطائه خمسة دنانير كويتية، أجاب نريد المبلغ بالدولار! شكونا له أمرنا وبعد مناشدة واسترحام سمح لنا بالمرور! وصلنا إلى منطقة "المصنع" نقطة الحدود اللبنانية مع سورية وأتممنا إجراءات الدخول وسط طوابير طويلة جداً من السيارات والشاحنات، لنحط الرحال كل حسب وجهته، ونتوزع من هناك بحثا عن الراحة والاطمئنان إلى عوائلنا التي كانت تنتظر قدومنا على أحر من الجمر! كان علينا البحث عن مصدر للدخل، ومكان للعمل، وهذا استغرق منا حوالي الشهر، بالتنقل بين دور صحف لبنانية والكتابة في صحيفة "الحياة" إلى أن عدنا إلى إمارة الشارقة والتحقنا بجريدة "الخليج" بدولة الإمارات العربية المتحدة.
جاءت الدعوة من العم جمعة الماجد الذي أظهر معدن الوفاء في تلك المحنة، فقد فتح الباب لكل أهل الكويت الذين دخلوا الإمارات، فكانت عماراته وشركاته تستقبلهم دون مقابل يكفي أن يكون كويتياً. علاقتي بالإمارات تعود إلى سنوات، وكانت في معظم الزيارات، إما لحضور مؤتمر أو مناسبة أو لقضاء إجازة، من تلك الزيارات الذهاب إلى إماراة دبي لتقديم استشارة لمركز جمعة الماجد الخاص بالمخطوطات والتراث والمكتبة، وتحديداً استخدامات الميكروفيلم بحفظ وتخزين المخطوطات والوثائق، بعد معرفته بأن "القبس" التي كنت أعمل بها حينئذٍ لديها قسم للميكروفيلم يمكن الاستفادة من خبراته، وكان ذلك عن طريق العم عبدالعزيز الشايع وموافقة رئيس تحرير "القبس" آنذاك محمد جاسم الصقر. جريدة "الخليج" أولى المحطات نظراً لمعرفتنا بعدد من الزملاء العاملين فيها، ولكونها من الصحف الأولى والرائدة على مستوى الإمارات، ولها روابط مع الكويت عن طريق مؤسسها تريم عمران الذي درس بثانوية الشويخ، وكانت صحيفته تطبع في مطابع مقهوي عند التأسيس أوائل السبعينيات. انضممت إلى أسرة الصحيفة وكانت تجربة حية وعن قرب للتعرف أكثر على صحافة الإمارات التي كانت تضع الصحافة الكويتية نصب أعينها لبلوغ ما وصلت إليه وما تعيشه من أجواء حريات تفتقدها، وللمستوى الذي حققته على مدى عقود. عشت تلك الأيام والأشهر وسط المعركة الدائرة على أرض الكويت، شاركت بإعداد وكتابة مجموعة تقارير صحافية ذات الصلة بالحرب والاحتلال، وكنا نعيش تطورات الحدث يوماً بيوم، انتظاراً ليوم التحرير، وتجولت في معظم الإمارات والتقيت بعدد من زملاء المهنة من صحف "الاتحاد" و"الوطن" و"البيان"، باعتبار أن الصحف الثلاث تشبه كل واحدة منها الإمارة التي تصدر منها، وإن كانت "الخليج" لسان حال الإمارات الشمالية، بحكم الموقع الجغرافي بدءاً من الشارقة مروراً بعجمان والفجيرة وأم القوين وصولاً إلى رأس الخيمة. صورة الكويت تتجلى أكثر في إمارة الشارقة، فلها تاريخ طويل من العلاقة والحضور الكويتي المتنوع من التعليم إلى المرافق الصحية والتماثل الثقافي الذي يجمعهما. كنت مهتماً "بمشاكل الحدود" في دول المنطقة والإمارات واحدة منها، زرت "العين" ورأيت كيف هي الحدود المتداخلة مع بعضها مع سلطنة عمان، وذهبت إلى "دبا الفجيرة" ويوم عدت إلى الكويت عن طريق "السلع" باتجاه قطر وفجأة تنتصب أمامك لوحة نرحب بكم بأراضي المملكة العربية السعودية، لتخرج منها وتكمل الرحلة برفقة الزميلين علي العدواني وناهس العنزي، وصولا إلى الخفجي ودخول الكويت المحررة في الأول من يونيو عام 1991، واستئناف العمل بصدور "القبس" من جديد.