• تكتبين القصة والشعر وتزاولين الترجمة، أيّ هذه الأعمال أقرب إليكِ؟

- كل نصّ يمنحني الدهشة صورةً ومعنىً ونسجاً للكلمات يعنيني، وكل ما تعوزه الدهشة بالنسبة إليّ كتابة ميتة وقد نكتب عن الموت نصوصاً حية نابضة، وقد نكتب عن معاني الحياة بحروف باردة تفتقر لانسياب الحياة، والمبدع أوركسترا إنسانية كاملة قد لا يسعها قالبٌ واحدٌ، في القصّة أكتب نماذج من شخوص سكنتني وأُغنّي دواخلها، وفي الترجمة أنصف مبدعاً سواي وأتقمّصه لأنقله كما أحسّه وأفهمه، أما الشعر فمرآة الروح الجوانية وسبيل البوح المجازيّ ودرب التعري من كل الشخوص إلا ما ينبش أعماقي في تلك اللحظة. وتظلّ النصوص المفتوحة مرآة التحرر الكامل من كل القوالب، وهي وسائل تتنوّع ولا فضل لإحداها على سواها إلا بقدرتها على إنصاف الحالة المستعرة في الروح بأنسب صورة.

Ad

الترجمة

• يرى البعض أن الترجمة خيانة للنص الأصلي بينما يرى آخرون أنها إعادة خلق للنص. ما رأيك أنتِ؟

- إن كانت ثمة خيانة في الترجمة فهي خيانة ذاتك لتنصف سواك، ثمة تخلٍّ عن كل ما يمثلك لتكون ذاك الكاتب ريثما تنهي ترجمته، تفكر بدماغه وتتماهى به، وتلاحق بأدواته موظفاَ كل ما لديك لتقوله، وهو جهد مقدس تحتاج فيه ألف عين لتدرك ما سكنه، وتقرأ ما قال وما لم يقل، وتلتقط مساعيَه الفنيّة والتقنيّة، لتعيد خلقه بطريقةٍ ولغةٍ تشبهه.

• في إحدى قصصك تقولين: "لم أكن كاتبة ولم أسع لأن أكون، كانت الكتابة رديف الاحتراق". ما المجال الذي كنتِ ستختارين بعيداً عن الكتابة؟

- تختارنا الكتابة قبل أن نختارها، تشي لنا بما قد تمنح من حياة حين نغالب الموت، وما تفتح من أبواب إذا أوصدت الأبواب، لكن قد نخلق سبلاً إضافية للصمود والانتصار في الحياة أو لإنصاف ما يسكننا من عوالم وميول، إحداها عندي هي التنشئة التي أحياها بروح الكتابة والإبداع أيضاً، فأمومتي وعملي في الإرشاد التربوي الذي أمارسه بشغف لا يخبو، أتاحا لي فسحة إضافية للإبداع وممارسة قناعاتي ورعرعة أفكاري ورؤاي وترك بصمتي في العالم، أما لو قيّضت لي حياة مختلفة وخانتني الكتابة فيها لاخترتُها إعلاماً تلفزيونياً أو مسرحاً أغزل فيه معانيَّ بثوب مرئيّ مسموع.

اللغة

• يلمس القارئ لنصوصك حالة من التدفق، هل يرجع ذلك إلى اهتمامك بالتركيز على التقنية أكثر من اللغة المعقدة؟

- اللغة عندي كأنها الآلة والنغم، لكني لا أسعى لابتذالها بما يخون الحالة، قد تبدو حيناً غيمةً ترش رذاذاً أو تتغازر انهماراً حيناً آخر، أو حتى تنزف نزفاً أحياناً أكثر، لذا أحرص أن تظلّ الحرية ركيزة اتفاقنا السريّ: هي تحررني مما يسكنني، وأنا أحررها بأن لا أجبرها على قول شيء إلا بصدق فني يجيب متطلبات الحالة والشخصية، فتغدو اللغة والتقنيات أجزاء للعبة "بازل" تتكامل معاً وفق ما يستدعيه النصّ، لا يمكنني أن أكتب بلغةٍ إلا إن كانت صادقةً، ولا أملك الاستهتار بالتقنيات والآليات التي لولاها لبدَت اللغة كائناً عارياً أجرد.

«في حضن التوت»

• كتابك "في حضن التوت" الصادر عام 2016 يمزج السرد بلغة شعرية بديعة هل أنتِ مع تحطيم الحواجز بين الأجناس الأدبية؟

- الدهشة لا تتجزأ ولا تعترف بالحدود، وأرى الأدب روحاً تتنفس وتكره الأقفاص والقضبان، فإن تلبّستني حالة لا أسعى لقولبتها إلا بشروطها ووفق احتياجها، ثم إننا نحيا عصراً تختلط فيه الرؤى وتتكسر فيه معتقدات وتنهار أبراج كانت شامخة، والأدب أصدق مرايا الإنسان، فهو لا يخشى المغامرة، بل يسعى إليها ويستثمرها بمرونة شرط ألا يبتذل كل صدق فنيّ مشروعٌ ما دام يجيد محاكاة إنسان قادم سيقرأه، ويقول: "جميل".

• نموذج المرأة في هذا الكتاب مثل تلك الغيور التي افترست نفسها، هل هي مستلهمة من الواقع أم هي قراءة في سيكولوجية البشر عموماً؟

- كل شخصية قد تتقاطع مع استلهام من الواقع، لكنها لا تشبهه بالضرورة، فهي مزيج من نماذج متعددة أجبل جوانبها المختلفة لأعيد تشكيلَها ذاتاً جديدة أتخيّلها وأحيكها بخيوطي، ولأني عاشقة لتأمل النفس الإنسانية أحاول أن أنصت إلى شخوصي وصوتها المكبوت، وهذه سمة قادتني للتخصّص بعلم النفس في دراستي للدكتوراه سعياً إلى سبر غور السيكولوجيات الإنسانية المتنوّعة، وهذا النموذج تحديداً شكّل لي تحدّياً في نبش جوانيات ما تعنيه مشاعر الغيرة لدى المرأة خصوصاً والإنسان عموماً، وهي تساؤلات راودتني سعيت أن أجيب عنها برسم ملامح تلك المرأة ومن يشبهها.

ولا أخفيك أن كل امرأة كتبتها يوماً هي ثمرة حالة من التلبّس غلبتني وسعيت أن أفكك ضفائر تركيبتها النفسيّة، سواء كانت عاشقة صوفية، أو أماً ثكلى سلبتها الحرب أملها، أو سيدة تتنازعها سؤالات الحرية والقيود وثارت فيها انتفاضات على المفاهيم، هو عالم من نساء يزُرنَ روحي ويتركن فيها بصماتهنّ، لأغدو تشكيلة منهنّ قد تختلط حتى عليّ أحياناً لأتساءل ما أنا منهنّ وما هنّ مني.

لقب «الأنوار»

• ما سبب اختيارك لقب "الأنوار" بدلاً عن اسمك الحقيقيّ أنوار أيوب سرحان؟

- حكايتي مع اسمي حكاية الكثيرات من نساء مجتمعي الذي يُسرق فيه اسم الأب، لتحمل الابنة كنية العائلة الموسّعة، ثم لتُسحب الكنية مع عقد القران وتُستبدَل بكنية زوجها لسنوات حملت اسمين لا يعكسان تكويني الفكري، خصوصاً بعد أن تجاوزت انتماءات موروثة كثيرة، وحطمت حجباً وحواجز، وكانت التسمية بالأنوار سعياً لإنصاف انتمائي لذاتي التي خلقتُها، واتّساع مجاز معانيها وهي الآفاق الممتدة داخلي المتجاوزة لعتمات تلصَق بنا منذ تشكل الوعي، إذ يحبسوننا في صناديق ليتحوّل أحدنا إلى خانات تصنيفية تطمس نواته وتخفيها حد المحو، وأنوار الأنوار هي لذة أن أحمل اسماً يقول رؤاي وقناعاتي، ويخلص لمعنى النور ومجازه، وهي محاولة العودة إلى النواة المخبأة ونزع القشور المزروعة حولها عبر السنين.