يتناول كتاب "بونابرت والرجل النبيل"، لطه الجوهري، قصص المقاومة، حيث واجه الفرنسيين في الصعيد ثلاث قوى مجتمعة، وهي: العرب القادمون من منطقة القصير، والمماليك، والأهالي، حيث كتب الجنرال الفرنسي ديزيه إلى نابليون بونابرت منزعجا من الوضع في الصعيد، والمقاومة العنيفة، طالبا منه المدد.وكانت أولى المعارك في سمهود، وهي تقع شمال محافظة قنا، وقدَّر نابليون بونابرت جيش المصريين في مذكراته بسبعة آلاف من المشاة، وألفين من عرب الحجاز بقيادة الشريف حسن. وكانت صفوف الفرنسيين تضم القائد ديزيه والجنرالين بليار وفريان، والرسام الفرنسي داينون، الذي كان يدوِّن بريشته تفاصيل تلك المعارك.
ووصف داينون ما حدث بعد هزيمة الجيش المصري، بأن النساء والأطفال ألقوا بأنفسهم في النهر، بل إن النساء كنَّ يشوِّهن بناتهن، حماية لهن من الفرنسيين.وبعد شهر من تلك المعركة، وتحديدا في 12 فبراير 1799، بادر أهالي قنا بالهجوم على الفرنسيين. وبالتزامن، استطاع الشريف حسن، قائد عرب الحجاز، تنظيم قواته، وانضم إليه الأهالي من سكان وسط قنا، ورابطوا بالقرب من قرية أبومناع، التابعة لمركز دشنا حاليا، وهناك دارت معركة بين الجانبين انتهت باستيلاء الفرنسيين على أبومناع، وأضرموا النار فيها وبالقرى المجاورة ونهبوها.
المختار السباعي
ويسلِّط الكتاب الضوء على شخصية الجيلاني، وهو محمد بن أحمد بن السيد المختار السباعي، المعروف بالجيلاني، وُلد بالمغرب، إلا أنه قدم من الحجاز بحملة لطرد الفرنسيين من الصعيد، واستشهد في إحدى المعارك، بعد أن تمكَّن مع أهل قنا من إغراق سفن نابليون بونابرت في نهر النيل. وقد اختلف المؤرخون حول هوية الجيلاني، فمنهم من نسبه إلى موطنه الحقيقي ووصفه بالمغربي، ومنهم من نسبه لأهل الحجاز.الوثائق الفرنسية
وتساءل الكتاب عن سرِّ غموض شخصية الجيلاني، وعدم ذكره في التاريخ كثيراً، حيث يذكر أن الوثائق الفرنسية التي تحدثت عن الشيخ الجيلاني والحملة التي عبر بها من الحجاز لقتال الفرنسيين، أرادت محو دوره عمدا، كما جمع المرويات الشفهية التي يحتفظ بها الصعايدة، وخاصة في قرى أبنود وحجازة بقوص، التي تضم ضريح الشيخ المجاهد الجيلاني، إضافة إلى مدينة القصير، التي قدمت من خلالها سفن المجاهدين من مكة المكرمة.كما تناول الكتاب بعض المرويات التي رواها الجبرتي عن الشيخ الجيلاني، حيث ذكر أن الجيلاني مغربي ومجاور بمكة والمدينة الطائف، إلا أنه يذكر بعض رموز المقاومة ضد الفرنسيين بالمشعوذين والدجالين الذين يكثرون في الفتن، مثلما وصف محمد بن الأحرش قائد المقاومة في البحيرة، وهي ذات الأوصاف التي ألحقها الفرنسيون بقائد المقاومة في الصعيد الجيلاني، والذي استشهد في إحدى المعارك ومقامه يزار بقرية حجازة قبلي بقوص جنوبي محافظة قنا حتى الآن.الحجاز ومصر
ويوضح الكتاب أن المؤرخ اليمني لطف الله جحاف أعطى أوصافاً حقيقية لرموز المقاومة، فقد تتبع أخبار هؤلاء المتطوعين في الحجاز ومصر، وبيَّن كيف ظهر الجيلاني على سطح الأحداث، وكيف بدأ في دعوته للمقاومة، وفي إثارته للهمم، حتى نجح في جمع قدر كبير من المال، فضلاً عن المتطوعين، ثم كيف دارت المعارك المتتالية بين هؤلاء المتطوعين والفرنسيين في مدن وقرى صعيد مصر، وكيف تم التعاون بينهم وبين القوى المصرية من مماليك وقبائل عربية وغيرهم ضد العدو المشترك، حتى استشهد الجيلاني، وانهزمت قواته وتفرقت، بعد إغراق سفن نابليون في نهر النيل.تعاليمه الدينية
وتتبع المؤلف سيرة الجيلاني لقصائده المخطوطة في موريتانيا، ولسيرته المجهولة في مصر والحجاز، وعن كراماته الصوفية، وتعاليمه الدينية، التي تحث على كرامة الإنسان، وحب الأوطان، والدفاع عنها، والزهد والتعفف، حيث لعب الجيلاني دوراً كبيراً في إفساد مخططات نابليون، وتدمير كل مشروعاته، وتبديد أحلامه. ولعل أكبر دليل على قوة تأثير هذا الرجل وضخامة الدور الذي لعبه، من خلال ما أورده محمد مزين ود. يونان لبيب في قولهم: "الواضح أن هذه الحرب أقلقت القيادة الفرنسية قلقاً شديداً، حتى إنه لما قرر بونابرت العودة من حملة الشام في يوليو 1799 كان سبباً من الأسباب الخمسة عشر التي ساقها لعودته، ما بلغه من توجه أهل الحجاز صحبة الجيلاني لناحية الصعيد".مرويات الصعيد
ويؤكد الجوهري في كتابه، أن تاريخ الحملة الفرنسية في صعيد مصر مازال حقلا ينتظر الكثير من الجهود المضنية، حيث لم تجد مَن يسلط الضوء عليه من المؤرخين، رغم كثرة ما كتب. "فمن الملاحط - برأي الكاتب- أن كثيرا ممن تناولوا موضوع الحملة الفرنسية على مصر لم يحاولوا البحث عن مرويات أهل الصعيد الشفهية، وأغلب ما وصلنا عن ذلك كان من خلال اعترافات ومذكرات قادة الحملة وضباطها أنفسهم، أو من خلال كتابات العالم اليمني لطف الله جحاف، الذي عاصر الحملة على مصر، وأخذ يوثق ما وصل إليه من حجاج بيت الله الحرام من أهل مصر، أو من أهل المغرب العربي المارين بها، والذي لعب دوراً كبيراً في الكشف عن الأحداث التي سقطت سهواً".