تُلقِي مشكلة تايوان بثقلها على الظروف القائمة. وما لم تثبت الولايات المتحدة أنها تتمتع بالقوة والقدرة اللازمتين لمجابهة عدائية الصين وأسلوب الإكراه الذي تتبناه، فقد يستنتج القادة الصينيون في نهاية المطاف أن المخاطر والتكاليف المترتبة عن أي تحرك عسكري مستقبلي ضد تايون تبقى منخفضة أو مقبولة على الأقل.ويمتد خط مستقيم من هونغ كونغ إلى تايوان، ولا يبدو الهجوم الصيني على الجزيرة وشيكاً أو حتمياً. لكنّ تحركات بكين الأخيرة في هونغ كونغ وأماكن أخرى من آسيا تطرح أسئلة مقلقة حول أهدافها التوسعية واستعدادها المتزايد لاستعمال استراتيجيات قسرية لتحقيقها.
باختصار، يجب أن تتوخى الولايات المتحدة الحذر وتتجنب المناورات الضيقة في قضية هونغ كونغ، في وقت تؤكد بكين استعدادها لخوض منافسة أوسع للتحكم بمستقبل آسيا.
تايوان ومخاوفها من الصين
كثيراً ما أعلن قادة الصين أنهم مستعدون لاستعمال القوة في تايوان لمنع الاستقلال الشرعي للجزيرة أو لتوحيدها مع بر الصين الرئيسي قسراً. لكن شي جين بينغ اتخذ موقفاً أكثر تشدداً في مسألة تايوان قولاً وفعلاً. فخلال المؤتمر الحزبي التاسع عشر في عام 2017، أعلن الرئيس الصيني أن إعادة توحيد البلد ترتبط بـ"حلمه الصيني" بتجديد وطنه. ومنذ ذلك الحين، صرّح مرتين بأن الفصل بين بر الصين الرئيسي وتايوان "يجب ألا يصبح متناقلاً بين الأجيال"، ثم قال في أحدث خطاب له عن تايوان، في يناير 2019: "بلدنا يجب أن يُعاد توحيده وسيُعاد توحيده حتماً".الأكثر خطورة هو أن رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ حذف مصطلح "سلمياً" حين تكلم عن مساعي توحيد البلد خلال كلمته الافتتاحية في المؤتمر الشعبي الوطني في مايو الماضي. وبعد بضعة أيام، حذا مستشار الدولة ووزير الخارجية وانغ يي حذوه في خطابه خلال المؤتمر. كان وانغ الرئيس السابق في مكتب شؤون تايوان في مجلس الدولة، وهو يدرك جيداً معنى تغيّر الخطابات المستعملة. في نهاية المؤتمر الشعبي الوطني الذي امتد أسبوعين، عادت عبارة "إعادة توحيد البلد سلمياً" إلى النسخة النهائية من تقرير لي كه تشيانغ الذي صادق عليه المؤتمر. ذكر التقرير تفسيرات غير مقنعة لغياب تلك العبارة سابقاً وربطه بسوء التنسيق البيروقراطي.وإضافة إلى تشديد المواقف ضد تايوان، سعت الصين إلى عزل الجزيرة دبلوماسياً. في السنوات الخمس الأخيرة، حرمت بكين تايبيه من سبعة حلفاء رسميين لها، فاقتصر عدد البلدان التي تعترف بتايوان كبلد مستقل على 15. وفي ذروة أزمة فيروس كورونا في مايو الماضي، ذهبت الصين إلى حد إقصاء تايوان من الاجتماع السنوي لجمعية الصحة العالمية في جنيف رغم نجاح الجزيرة في احتواء فيروس "كوفيد-19" وتفوقها على معظم بلدان العالم.في الوقت نفسه، صعّدت الصين ضغوطها العسكرية على تايوان. ونفذت القوات الجوية والبحرية أكثر من 10 عمليات ترانزيت وتدريبات عسكرية بالقرب من الجزيرة منذ منتصف يناير الماضي، بما في ذلك عدد متزايد من التوغلات المتعمدة في الأجواء التايوانية. وفي مارس، أرسلت القوات الجوية الصينية طائرتَين مقاتلتَين متقدمتَين فوق خط الوسط لمضيق تايوان للمرة الأولى منذ 20 سنة، كما أرسلت عدداً متزايداً من الطائرات على طول الخط نفسه منذ ذلك الحين. كذلك، حلّقت القاذفات الصينية الاستراتيجية فوق الجزيرة في مناسبات متعددة في الأشهر الأخيرة، وعبرت طائرات صينية أخرى مضيق مياكو بين تايوان واليابان، في مناورات تهدف كلها إلى ترهيب تايوان عبر إثبات جاهزية بكين لاستعمال القوة دون سابق إنذار.ولا تستطيع رئيسة تايوان تساي إنغ ون فعل الكثير لإقناع الصين بالتراجع عن الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، إلا إذا وافقت على تعريفها لمفهوم "الصين الواحدة" ونموذج "بلد واحد بنظامَين"، لكن تراجع الدعم لهاتين الفكرتين اليوم بعد أحداث هونغ كونغ. وفق الرؤية التي يحملها قادة الصين عن العالم، يُعتبر النهج الصيني المبني على التهديد باستعمال القوة مشروعاً بسبب التزام تساي باستقلال تايوان، وجهودها الحثيثة لإلغاء جميع مظاهر الثقافة الصينية في الجزيرة، والروابط المتزايدة بين تايوان وهونغ كونغ والعالم الديمقراطي عموماً. ويبدو أن شي جين بينغ اتخذ قراره حول تساي: قد يكون القرار خاطئاً لكنه حاسم على الأرجح. هو يقيّم مع قادة صينيين آخرين منافع وأضرار تشديد المواقف من تايوان، تزامناً مع أخذ رغبات الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بالاعتبار. هذا ما يفسّر أهمية الرد الأميركي على قانون هونغ كونغ.حسابات بكين تغيّرت!
ولمنع بكين من تنفيذ اعتداءات إضافية، يجب أن توضح الولايات المتحدة أن قانون الأمن القومي سيترافق مع عواقب معينة، لا سيما إذا استعملته بكين لتبرير اعتقال الصحافيين أو الناشطين السلميين أو المرشحين السياسيين في هونغ كونغ. ومرر الكونغرس الأميركي تشريعاً مدعوماً من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي يسمح لإدارة ترامب بعدم إعطاء التأشيرات وفرض عقوبات مستهدفة أخرى ضد المتورطين مباشرةً بأعمال القمع في هونغ كونغ، وقد أعلنت الإدارة الأميركية جاهزيتها أيضاً لتطبيق تلك التدابير. لن تخلو العقوبات المستهدفة من التكاليف على مستوى العلاقات الأميركية الصينية أو ظروف سكان هونغ كونغ، لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تحدّ من الأضرار الجانبية عبر تطبيق تلك التدابير بوتيرة تدريجية ومتكافئة وبالتعاون مع قوى أخرى.يجب أن تبدأ إدارة ترامب بتحسين تعاونها مع الحلفاء الأوروبيين والآسيويين. سبق أن أصدرت بيانات مشتركة مهمة من الناحية الرمزية حول مسألة هونغ كونغ، أولاً مع أستراليا وكندا وبريطانيا، ثم مع مجموعة الدول الصناعية السبع. لكن ثمة حاجة إلى بذل جهود دبلوماسية إضافية لتوسيع ذلك التحالف وتنسيق الضغوط المفروضة على بكين. من المقلق أن ينتقد عدد ضئيل من الحكومات الآسيوية القانون الصيني الجديد وأن يتعهد الاتحاد الأوروبي بكل بساطة "بمتابعة التطورات عن قرب". لكن قبل أن تحشد واشنطن حلفاءها الأوروبيين والآسيويين لدعم رسالة موحّدة حول هونغ كونغ، يجب أن تتوقف عن مهاجمتهم. ابتعد هؤلاء الحلفاء عن الولايات المتحدة في ظروفٍ كانت لتجعلهم في العادة يتقبلون دورها القيادي بسبب قرار ترامب الأحادي الجانب بسحب قواته العسكرية من حلف الناتو، ومطالبته بمبالغ مفرطة من طوكيو وسيول، وتهديداته بسحب الجنود من كوريا الجنوبية، وعدم اهتمامه بمجموعة الدول الصناعية السبع وتحالفات أخرى. كشفت هذه التحركات أيضاً حجم الخلافات بين الحلفاء الغربيين وهشاشة علاقتهم في تعاملهم مع بكين.لكن الصين تنشئ ظروفاً تصبّ في مصلحة الجهود الدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة في مسألة هونغ كونغ. كانت دبلوماسية "الذئب المحارب" الصينية تهدف إلى ترهيب البلدان التي تنتقد طريقة تعامل بكين مع الوباء وقد أدت، تزامناً مع التحركات العدائية الأخيرة على خلفية النزاع على الأراضي، إلى ابتعاد معظم دول العالم عن هذا المحور. على الولايات المتحدة أن تقتنص هذه الفرصة لجعل هونغ كونغ على رأس أولوياتها الدبلوماسية. في المرحلة التمهيدية لانتخابات المجلس التشريعي في هونغ كونغ في شهر سبتمبر، يُفترض أن تقود واشنطن مجموعة الدول الصناعية السبع، ورابطة أمم جنوب شرق آسيا، والاتحاد الأوروبي، واللجنة الرباعية المؤلفة من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، لطرح تصريحات موحّدة وإطلاق تحركات مشتركة وتحذير بكين من اعتقال مرشحين سياسيين لا تحبذهم.وعلى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والآسيويين أيضاً أن يفكروا بتقديم إقامة إلى سكان هونغ كونغ وإجراءات لنيل الجنسية، كما فعلت بريطانيا. وإذا تدهور الوضع في هونغ كونغ، بسبب اعتقال المرشحين لانتخابات أيلول مثلاً، يجب أن تفكر الولايات المتحدة بفرض عقوبات على المسؤولين الصينيين المتورطين بهذه الممارسات. لن تُجدد هذه التدابير استقلالية هونغ كونغ على المدى القصير، لكنها قد تكبح أي مظاهر قمعية علنية وتُوجّه النهج الصيني في ملف تايوان.لكن تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى التعامل بجدية مع الردع العسكري في غرب المحيط الهادئ إذا أرادت منع الاعتداءات الصينية في تايوان أو أي مكان آخر من آسيا. في آخر عقدين، أحرز جيش التحرير الشعبي تقدماً أضعف القوة العسكرية الأميركية في غرب المحيط الهادئ، لا سيما في محيط تايوان. كانت العمليات الأخيرة التي نفذتها مجموعتان قتاليتان أميركيتان في بحر الصين الجنوبي إثباتاً بارزاً على قوة الإرادة الأميركية، لكن تبقى القدرات العسكرية مهمة في هذا المجال. وكتب نائب وزير الدفاع السابق روبرت وورك أن الجيش الأميركي يواجه اليوم احتمال خسارة أي معركة مع الصين دفاعاً عن تايوان. وركّز البنتاغون على بناء منصات كبرى، مثل حاملات الطائرات وسفن برمائية ذات سطح كبير، لكنّ هذه المنشآت لا تكبح قدرات الصين. لذا يجب أن تعيد الولايات المتحدة النظر بموقفها وتكثّف تعاونها وعملياتها مع حلفاء مثل اليابان وتُحسّن قدرتها على القتال في البيئات المتنازع عليها، حتى لو اضطرت لاستعمال المزيد من الأنظمة الآلية التي لا تتكل على القدرات البشرية. وطرحت لجان الخدمات المسلحة الأميركية في مجلس النواب ومجلس الشيوخ "مبادرة الردع في المحيط الهادئ" التي تُمهّد لتجديد القدرة الأميركية التنافسية في هذه المناطق. ويجب أن يموّل الكونغرس الأميركي تلك المبادرة ويحاسب البنتاغون المسؤولين عن تنفيذها.وستكون مساعدة تايوان والتعاون معها أساسيين لتكثيف الجهود الأميركية الرامية إلى منع الاعتداءات الصينية. على واشنطن أن تساعد تايوان لتقوية نظامها السياسي في وجه الضغوط الصينية وتساعد جيشها على إضعاف القدرات الصينية في المعارك. لا يمكن تحقيق هذا الهدف الأخير عبر بيع دبابات M1A1 التي سمحت بها إدارة ترامب في عام 2019 بقيمة مليارات الدولارات إلى الجزيرة. هذه الخطوات لا تسمح بردع الحملات البحرية والجوية والصاروخية الصينية، وسيبقى جيش التحرير الشعبي أكبر وأكثر جاهزية من جيش تايوان دوماً في المعارك الميدانية. لذا من الأفضل أن تتعاون الولايات المتحدة مع تايوان لتطوير قدراتها العسكرية كي يتسنى لها أن تردع أي عمليات غزو أو اعتداءات صينية ضد بنى تحتية أساسية. وعلى البنتاغون أن يقدم مساعدات إضافية إلى جيش تايوان لتدعيم مخزونه وأنظمة التعبئة فيه، وهي عوامل محورية للحفاظ على قوة المؤسسة العسكرية على المدى الطويل. في الوقت نفسه، يجب أن تكثّف الولايات المتحدة تحضيراتها بكل هدوء مع اليابان وحلفاء أقوياء آخرين لمواجهة أي حالات طارئة مرتبطة بتايوان.لكن حتى أذكى التحضيرات الدبلوماسية والعسكرية لن تضمن أمن تايوان ما لم تكشف الولايات المتحدة نواياها وسياساتها ومخاوفها حول العلاقات العابرة للمضيق بكل وضوح أمام بكين. تفرض هذه الخطوة على كبار المسؤولين في مجال الأمن القومي في الصين والولايات المتحدة استئناف حوار استراتيجي صريح بما يشبه ما حصل في عهد جورج بوش الإبن وأوباما (انقطع ذلك الحوار لاحقاً بعد وصول ترامب إلى الرئاسة). يستطيع المديرون السابقون لشؤون آسيا في مجلس الأمن القومي أن يقيّموا أهمية هذا الحوار مع الصين وحدوده. لم تعد النقاشات الواسعة عن النظام العالمي، كتلك التي جمعت هنري كسنجر وتشوان لاي، ممكنة اليوم، إذ يَقِلّ عدد المسؤولين الصينيين القادرين على توسيع نطاق النقاش حول النوايا الصينية بكل حرية، فكيف بالحري السياسات الدولية؟ مع ذلك، تستطيع الولايات المتحدة في هذه المحادثات أن تطرح مؤشرات واضحة حول الخطوات التي ستتخذها وتلك التي ستمتنع عنها.كان هذا النوع من الحوار مفيداً جداً لتبديد تقييمات بكين حول أسوأ السيناريوهات المرتبطة بالنوايا الأميركية والتشديد على عدم تجاهل التحذيرات الرسمية التي تصدرها واشنطن واعتبارها مجرّد خطابات معزولة للمتشددين. وحتى لو كانت هذه النقاشات منحازة على نحو مُحبِط، يجب ألا تُعتبر مؤشر ضعف بل استثماراً أساسياً لتجنب سوء التفاهم الذي يولّد الأزمات. يشعر عدد كبير من حلفاء الولايات المتحدة اليوم بالقلق من الانضمام إلى التحالفات التي يقودها الأميركيون لمجابهة الصين لأنهم يخشون أن ينجروا إلى دوامة تنافسية لامتناهية بين واشنطن وبكين. لكن من خلال استئناف الحوار الاستراتيجي مع الصين، ستثبت الولايات المتحدة اهتمامها بكسر تلك الدوامة.وبدأت أسس العلاقة الأميركية الصينية تتغير مع زيادة ميل بكين إلى أخذ المجازفات على الساحة الدولية وحيازتها أدوات قوية وقسرية أكثر من أي وقت مضى. يُعتبر قانون الأمن القومي الجديد مثالاً على سلوك الصين الذي يزداد عدائية، ويخشى المراقبون أن تتوسع هذه الأمثلة في المرحلة المقبلة. لكن بقيت المصالح الوطنية الأميركية ثابتة طوال عقود، أو حتى قرون، ويُفترض أن تُوجّه صانعي السياسة الأميركية اليوم. منذ تأسيس الجمهورية الأميركية، سعت الولايات المتحدة إلى منع أي قوة منافِسة من السيطرة على منطقة المحيط الهادئ. يُذكّرنا الوضع في هونغ كونغ اليوم بأن تحقيق هذا الهدف يزداد صعوبة في ظل الظروف القائمة. يجب أن تتزامن الضغوط الأميركية مع جهود دبلوماسية فاعلة كي تلاحظ بكين نشوء تحالف دولي مستعد للتحرك ضدها، شرط ألا تشعر بالتهديد لدرجة أن تبدي ردة فعل هجومية أو تتمكن من فصل الولايات المتحدة عن حلفائها.* مايكل غرين* إيفان ميديروسفورين أفيرز