أبوجوزيف يسمِّي مقهاه «الكويت» إكراماً لوالدي
في عام 1963، كنتُ أمضي إجازة الصيف في بلدة حمانا اللبنانية الرائعة مع العائلة الكبيرة المكوَّنة من الوالد والوالدة وإخوتي، وكانت إجازة حقيقية بمعنى الكلمة، وطويلة في الوقت نفسه، حيث استمر مداها إلى ثلاثة أشهر، على العكس من إجازاتنا الحالية، التي أصبحت قصيرة المدة، بسبب المشاغل والارتباطات. وكان الوالد، يرحمه الله، يصطحبني إلى مقهى عُرف باسم مقهى أبوجوزيف، لصاحبه أنطوان رزق. أما أبوجوزيف هذا، فكان ساعياً للبريد يصحو باكراً، حاملاً على كتفه حقيبة البريد، ويتجوَّل في أرجاء البلدة، لتسليم الرسائل لأصحابها من أهالي حمانا، وإلى المصطافين الكويتيين، وبعد أن ينتهي من مهمته يعود في الحال إلى المقهى، ليفتحه، إيذاناً باستقبال زبائنه من المصطافين الكويتيين، فيقوم بتجهيز البوظة العربية، التي يحضِّرها بنفسه من الحليب الطازج والفواكه الموسمية، مثل: التوت والليمون... إلخ، دون إضافة أصباغ أو مواد حافظة عليها، وفي نحو الساعة التاسعة من صبيحة كل يوم يبدأ توافد المصطافين الكويتيين إلى المقهى، الذي لا يزيد عدد طاولاته على الخمس، منها واحدة لرواد لعبة "الكوت بوستة".كنتُ أجلس بجانب والدي، وأستمع بإنصات تام إلى أحاديث (سوالف) كبار السن، وكان بينهم التجار ونواخذة الغوص والسفر، حيث يقومون بسرد القصص والحكايات والمواقف، التي صادفوها في أسفارهم إلى الهند وشرق إفريقيا بطريقة عجيبة ولافتة، حتى يُخيَّل للسامع إليها أنه في وسط الحدث المثير.كان جميع رواد المقهى من الكويتيين، دون غيرهم، وفي أحد أيام العُطلة الصيفية التفت والدي إلى صاحب المقهى (أبوجوزيف)، مخاطباً إياه: "ليش ما تسمِّي المقهى باسم الكويت، فجميع رواد المقهى من الكويتيين؟".
السؤال كان عفوياً. فردَّ أبوجوزيف بعفوية بلهجته اللبنانية المعهودة، وقال: "كرمال عيونك"... فضحك الجميع.مضت الأيام، وانتهت العُطلة الصيفية، وعُدنا إلى ربوع الوطن، وفي السنة التالية، أي عام 1965، وجدنا يافطة تتصدَّر المقهى من الأعلى، كُتب عليها "مقهى الكويت"، وأدركنا أن أبوجوزيف أخذ الحديث الذي أطلقه والدي مأخذ الجد. وما فعله أبوجوزيف حبَّب إلى نفوسنا التواجد باستمرار في مقهى الكويت يومياً، وأخذ المقهى شهرة لا بأس بها. وحدث ذات مرَّة أن زار المقهى المغفور له الشيخ صباح السالم، أثناء وجوده بمصيفه الدائم في عالية، وقال أثناء زيارته: "وصلتني أخبار عن تسمية المقهى باسم الكويت، وهذا الشيء سرَّني كثيراً، فوددتُ أن أزوركم للاطمئنان على أحوالكم"، وطلب الشاي، وأعطى أبوجوزيف مبلغ 1000 ليرة. كما كان يتردد على المقهى الشيخ عبدالله الجابر، وشخصيات كويتية كثيرة.تمضي السنون على عجالة، منذ ذلك الوقت، وننقطع عن لبنان، وفي السنوات الأخيرة قلتُ للأولاد: سوف أُريكم مقهى الكويت، الذي سمَّاه جدكم، وكنا نمضي فيه أجمل الأوقات، وعندما وصلنا إلى حمانا كانت المفاجأة غير المتوقعة حين وجدنا المقهى مغلقاً، ولكن اللوحة مازالت تحمل اسم "مقهى الكويت"، وجدناها وقد أكل عليها الدهر وشرب لقِدمها، فسألت بلهفة عن أبوجوزيف، فأخبروني أنه مات، وأن جوزيف ابنه أصبح عقيداً في الجيش اللبناني، وغير متفرِّغ لإدارة شؤون المقهى، فرجعت إلى حيث أتيت، وفي طريق العودة توالت بمخيلتي الذكريات القديمة كأنها فيلم سينمائي، وكنتُ أسمع صدى صوت والدي وأحاديث أصدقائه، وتمنيتُ أن يعود الزمان إلى الوراء.