يا سادة القناع يخنق والنقاب أيضاً! *
مرت فترة طويلة ولم يلتقين حتى قبل "كورونا" الشرير، ألم يعد التأريخ للأمور هو ما قبل كورونا أو بعده؟ اعتذرت هي عن لقاءاتهن وتجمعاتهن منذ أن تزوجت من ذاك الشاب خريج المدارس الخاصة أيضاً، والذي تتقارب فيه أسرتها وأسرته في مستوياتهما المالية والاجتماعية، وعندما اختفت في المرحلة الأولى من الزواج ضحكن في جلساتهن الأسبوعية ورددن "هو الحب"، بقيت شلة تلك المدرسة الخاصة "السينيه" تلتقي، فهن ومعهن كثير من الزملاء من "الجنس الآخر" لم يفترقوا لسنوات طويلة، حتى في مواسم الإجازات الصيفية، كن يسافرن إلى بقاع مختلفة للسياحة برفقة أسرهن وما يلبثن أن يعدن إلى الساحل أو الجونا. بعد أشهر من زواجها عادت للرد على رسائلهن رغم أنها خرجت من المجموعة المشتركة على الواتساب، وصارت تعتذر بخجل، وبعد جهود جبارة منهن وافقت على اللقاء بشرط ألا يشارك فيه "الذكور" من الشلة القديمة! لم يستطعن فهم هذا الموقف منها، ولكنهن وبعد إحساس بالوفاء لرفقة وعشرة السنين حددن الموعد على العشاء في ذاك المطعم الشهير والفاخر هو الآخر "سينيه"! فوجئن عندما دخلت المطعم وتسمرت أنظارهن عليها، هي لحظات سريعة، وغلبتهن مشاعر الشوق لها، هي سليلة الأسر العريقة وابنة نساء عديدات تسلسلن لأجيال طويلة في العائلتين، جدتها لأمها وجدتها لأبيها، عماتها وخالاتها، كلهن بقين وفيات لخلفياتهن وعلمهن، وربما كثير من نضالات الجدات من أجل حرية ومساواة المرأة في بلادنا المتشحة بالسواد ودرجة الحرارة تتجاوز الأربعين!
دخلت بكامل أناقتها كما اعتدنها، ولكن بإضافة بسيطة، وهي أن لبسها كله "حشمة"، اختفت دهشتهن من التغييرات وكل ما رافقها من هواجس بعد حفلة الأحضان والقبل والدموع (الله يرحم تلك الأيام حتى الحضن أصبح حراما في زمن كورونا). كان عشاء جميلاً مع بعض المناوشات منهن بين الضحك والجد وتكرار السؤال "جرا إيه يا..." وهي ترد بخجل أو مواربة حتى قالت: "أنا أحبه وهو يحبني هكذا"، خلاص فهمت الحكاية وتقبلتها الشلة ومضين في الحرص على الصداقة والمحبة، وكل شيء آخر لا يهم، فهو قشور! تدريجيا تحولت الملابس المحتشمة إلى حجاب من النوع الذي يتكون من طبقتين ضمانا لعدم "ظهور شعرة واحدة" لتخدش حياء الأعين المتربصة! اشتد النقاش بينهن بل احتدم، وأحيانا كانت الجلسات الممتعة تنتهي باستئذانها السريع وتحججها بأن عليها الاستيقاظ مبكرا لأخذ الأولاد إلى المدرسة أو... أو... وما إن تغادر المكان حتى تدخل الشلة في حفلة من الغضب لما يجري لصديقتهن، ليس بفعل الحب، كما قالت إحداهن رافضة تلك "الحجة الباهتة"، وتعمقت الشلة في التحليل والتدقيق، بل إن إحداهن، تلك المعروفة بشدة فضولها، راحت تتلصص من هنا وهناك لمعرفة أخبار أكثر عن وضع صديقتها مع زوجها، وبالطبع لم تجدِ أي من محاولاتهن لإقناعها بإضافة بقية الشلة لهذه الجلسات التي بدأت أسبوعية ثم تحولت كل أسبوعين ثم عندما تستطيع، وتباعدت اللقاءات حتى مع الصديقات، وفجأة اختفت هي بالكامل وبقيت تتواصل بالرسائل المكتوبة، وليست حتى الصوتية، يمكن صوت المرأة عورة؟ ربما!كل ذاك كان قبل كورونا، وما إن حل الفيروس اللعين حتى تعطلت كل أشكال التواصل، وبقيت لغة الكلام عبر الأثير فقط! تجاوبت هي بل بدت أكثر استعداداً للمبادرة بالاتصال... إلخ، حتى جاء ذاك اليوم المشؤوم ربما بالنسبة إليها، فكت الحكومات الحصار المفروض، وسمحت بالخروج من المنازل مع احترام التباعد الاجتماعي، فقررت الصديقات الالتقاء في تلك القهوة بالشرفة المفتوحة في ذاك المركز التجاري الشهير، كل الشروط متوافرة، كن قد اتفقن أن يلتقين بكل أفراد الشلة، فلم تكن هي ضمن تلك المجموعة على الواتساب، ولم تعرف برنامج الهروب بل خطة الهروب الأول من البيت إلى الفضاء!كانوا جميعا يتسامرون بين فناجين القهوة الكابتشينو واللاتيه بالكراميل حينما دخلت امرأة منتقبة مع رجل ملتحٍ بسروال قصير، فقد هلّ الصيف بحراراته العالية! لم يكن المشهد مثيراً أو لافتا للنظر، فقد اعتدن على رجال يستمتعون في "البلبطة" في مياه البحر أو حمامات السباحة وزوجاتهم وبناتهم المنتقبات يجلسن بكامل ملابسهن على حافة الحياة ينتظرن خروج الأطفال من الذكور، وكأنهن جالسات في جحيم الحياة!! اللافت أن عينين من خلف النقاب تسمرتا نحوهم، وبقيت كذلك حتى كشفت هي عن نفسها، ألا يقولوا كاد المريب أن يقول خذوني؟ تعرفن عليها ولم يستطعن مقاومة النهوض ومصافحتها طبعا دون زوجها، وبتلعثم تحدثت عندما ردد هو كم مزعج هذا القناع، يعني لازم نختنق علشان لا نصاب بالفيروس؟ قالت له تلك الصديقة المشاغبة: الحمدلله أنك الآن تستطيع أن تحس بصديقتنا العزيزة وهي من خلف نقابها تحاول التعايش، فنظر لها بغضب محاولا تفادي الإجابة، وقال لزوجته المغطاة بالسواد: إن عليهما الذهاب لشراء المايوهات له وللأولاد لأنهم رايحين البحر، فسارت هي بنقابها (قناعها) غير الطبي والدائم من خلفه، ومضى هو يلقي باللوم على كورونا، بأنه خنقه وعطل صيفيته في البحر، عجبي!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية