انتقال عادل بعد الجائحة
تحذر منظمة العمل الدولية من أن 1.6 مليار عامل في الاقتصاد غير الرسمي يواجهون «خطرا مباشرا يتمثل بتدمير سبل معايشهم»، ويشير تقرير صادر عن الاتحاد الإفريقي إلى أن ما يقرب من 20 مليون وظيفة في إفريقيا وحدها معرضة للخطر في القطاعين الرسمي وغير الرسمي.
سنحتاج بعض الوقت كي تتضح بشكل كامل العواقب الاقتصادية المترتبة على جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، لكن بعض التكاليف أصبحت واضحة بالفعل، بدءا بالدمار الذي ستلحقه الأزمة بقوة العمل العالمية، ومع تهديد تغير المناخ أيضا بإيقاع الأذى بالعمال الأكثر ضعفا وعرضة للخطر في العالم، تصبح الحاجة إلى استجابة شاملة للأزمة تؤكد العدالة والاستدامة شديدة الإلحاح.ترسم الأرقام صورة قاتمة، فتحذر منظمة العمل الدولية من أن 1.6 مليار عامل في الاقتصاد غير الرسمي- ما يقرب من نصف قوة العمل العالمية- يواجهون "خطرا مباشرا يتمثل بتدمير سبل معايشهم"، ويشير تقرير صادر عن الاتحاد الإفريقي إلى أن ما يقرب من 20 مليون وظيفة في إفريقيا وحدها معرضة للخطر في القطاعين الرسمي وغير الرسمي، وفي الولايات المتحدة، وفقا لتقدير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، على الرغم من معدل بطالة رئيس بلغ 13.3 في المئة- وهذا أعلى بالفعل من أي ركود سابق بعد الحرب- فإن البطالة الفعلية أقرب إلى 27%.من الواضح أن الحكومات يجب أن تتحرك لحماية العمال من صدمة "كوفيد-19"، ولكن إذا كان لهذه الجهود أن تضع الاقتصادات وعمالها على أرضية أقوى تتجاوز الأزمة الحالية، فيجب أن تعمل أيضا على تعزيز الأهداف التي تضمنها اتفاق باريس للمناخ 2015، بما في ذلك رؤية "الانتقال العادل" التي يعرضها الاتفاق بالتفصيل، فهذا لا يعني التحول إلى أنماط مستدامة للتنمية فحسب، بل يعني أيضا حماية حقوق العمال وسبل معايشهم في إطار هذه العملية.
في كثير من الأحيان، يُـفـتَـرَض أن التقدم على مسار الاستدامة يجب أن يأتي على حساب النمو الاقتصادي وتشغيل العمالة، ويخشى الموظفون في القطاعات المسببة للتلوث ألا يؤدي التحول المناخي إلى "أصول مهجورة" فقط، بل إلى "عمال مهجورين" أيضاً، وربما لسبب وجيه، والواقع أن بلدات وقرى التعدين السابقة في المملكة المتحدة لم تتعاف حتى الآن من زوال صناعة الفحم في أواخر القرن العشرين.بيد أن هذه النتيجة ليست حتمية على الإطلاق، حيث تتوقع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة أن يصل عدد الوظائف في القطاع، مع زيادة الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، إلى نحو 42 مليون وظيفة على مستوى العالم بحلول عام 2050 (أي أربعة أمثال مستواها الحالي)، وستُـفضي تدابير كفاءة استخدام الطاقة إلى إنشاء 21 مليون وظيفة إضافية، في حين تعمل مرونة النظام على إنشاء 15 مليون وظيفة أخرى، فالأمر ببساطة، في ظل استثمارات كافية في الاقتصاد الأخضر، ستكون الوظائف كافية. غير أن ضمان تحسن أحوال العمال يتطلب أيضا بذل جهود متضافرة لكي نضمن أن الوظائف الجديدة وظائف جيدة، وتسهيل انتقال العمال المزاحين بشكل سلس من الصناعات الأخرى (مثل الوقود الأحفوري)، وتتمثل الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الغاية في تبني نهج متكامل حقا، حيث تعمل الحكومات والشركات والنقابات والمستثمرين جميعا لضمان أن مبادرات المناخ تضع احتياجات العمال في الاعتبار.في السنوات الأخيرة، اكتسبت اعتبارات بيئية واجتماعية وإدارية المزيد من الثِـقَـل في دوائر الأعمال والاستثمار والسياسة، ولكن في الكثير من الأحيان ساد نهج منعزل، حيث تتعامل الأطراف الفاعلة مع هذه الأبعاد الحاسمة المؤثرة على الأداء في الأمد البعيد بشكل منفصل.لن يكون هذا كافيا، فكما سيؤدي تغير المناخ الجامح إلى إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد والعمال- وخصوصا من خلال التسبب في تفاقم الكوارث الطبيعية والمساهمة في تفشي الأوبئة- فإن كل هذا سيكون أيضا نتيجة للفشل في تحسين إدارة رأس المال البشري وحماية رفاهية العمال، وفي عموم الأمر لن يكون بناء اقتصاد مستدام- وتحصيل عوائد الاستثمار الطويلة الأجل التي تتدفق منه- في حكم الممكن، وسط مستويات عالية من البطالة، والتفاوت بين الناس، والارتباك. لتجنب هذه النتيجة، يجب استخدام مشاركة المساهمين ليس لدفع الشركات لتنفيذ استراتيجية الانتقال العادل فقط، بل لتعزيز الشفافية من خلال الإفصاح العلني أيضا، لأن أكثر من ثلثي مبادرات المشاركة التي تلاحقها حاليا مجموعة كاندريام للمستثمرين تتناول بشكل مباشر تحول الطاقة، وظروف العمل العادلة، وأخلاقيات العمل، وجميعها ركائز للانتقال العادل. علاوة على ذلك، ينبغي للمستثمرين أن يعملوا على تشجيع الشركات على نشر رأس المال- من خلال جيل جديد من الاستثمارات وإصدارات السندات على سبيل المثال- لدعم التجديد والتنويع في المجتمعات المتضررة بسبب الانتقال. ويجب أن يعمل المستثمرون والشركات مع الحكومات لضمان ترسيخ الانتقال العادل في صميم عملية صنع السياسات، وخصوصا فيما يتصل بالتخطيط للتعافي من أزمة "كوفيد-19"، حتى تتمكن أموال التحفيز من المساعدة في بناء اقتصاد نظيف وشامل للمستقبل.لم يسبق لمجتمعاتنا- بما في ذلك الحكومات، والهيئات العامة، والمستثمرين، والشركات- أن كانت على مثل هذا القدر من الالتزام بالاستدامة كما هي حالها اليوم، فلم تكتف حكومات العالم بتعزيز أهدف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة؛ بل تعهدت أكثر من 11 ألف شركة في 157 دولة بدعمها أيضا.لكن هذه ليست سوى خطوة أولى؛ إذ يتعين على هذه الأطراف الفاعلة الآن أن تتابع التزاماتها المتعلقة بالمناخ، وأن تتأكد من أن جهودها كفيلة بتعزيز لا تقويض الحتميات الاجتماعية، فهذا ليس الاختيار الأخلاقي الوحيد فحسب؛ بل يمثل أيضا أفضل طريقة لضمان الدينامية الاقتصادية في المستقبل، ولن يتسنى لنا تأمين النمو والرخاء للأمد البعيد- وبناء القدرة على الصمود التي نحتاج إليها لتحمل صدمات المستقبل- إلا من خلال دمج الحتميات والضرورات البيئية والاجتماعية في نماذج أعمالنا وسياساتنا الاقتصادية.* نعيم أبو جودة * نـك روبنز* نعيم أبو جودة الرئيس التنفيذي لشركة كاندريام ورئيس مجلس إدارة شركة نيويورك لايف إنفيزتمينتس الدولية، ونِـك روبينز أستاذ ممارسة التنمية المستدامة في معهد غرانثام للبحوث التابع لكلية لندن للاقتصاد.«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»