*المسرح فن يعتمد على روح الفريق والتفاعل المباشر مع الجمهور، إلى أيّ مدى ترى أنه تضرّر جرّاء تفشي جائحة كورونا؟-المسرح، من الزاوية السوسيولوجية، هو من آخر الفرص التي تتاح للإنسان المعاصر لكي يعيش "تجربة جماعية"، لاسيما في ظل حياة باتت تطغى عليها العزلة والفردانية، ويعوض فيها الاجتماع الافتراضي (عن بُعد) عبر مواقع التواصل الاجتماعي التواصل الإنساني الواقعي الحي والمباشر، هنا تكمن قوة فن المسرح وضعفه في آن واحد، مقارنة بالفنون الأخرى التي بإمكانها الاستمرار والتعايش مع ظروف الجائحة، خصوصا تلك التي تعتمد الصورة أساسا، فطبيعي جداً حين يضيع التفاعل المباشر الذي على أساسه أُسس فن المسرح باعتباره "فناً خالصاً" بسبب جائحة فرضت إحداثيات جديدة في العيش اليومي للناس وفق ما سُمي بـ "التباعد الاجتماعي"، والخضوع لإكراهات "الحجر الصحي"، وأن يعيش هذا "الفن الحي" أوضاعاً صعبة تنعكس على سيرورته الإبداعية، مثلما تمتد آثارها إلى علاقته بجمهوره وشروط تلقيه.
تدارك الفراغات
*أزمة الوباء أفسحت المجال أمام المسرح المسموع أو تسجيل الأعمال وعرضها عبر الـ "سوشيال ميديا" أو تقديم عروض في الهواء الطلق، هل هذه البدائل تثري التجربة أم تشير إلى ترنح هذا الفن؟- المسرح لا يترنح ولا يموت ما دام متصلاً بالجانب الحي والأبقى في حياة الإنسان وهو: غريزة المحاكاة والنزوع نحو الاجتماع الإنساني، فهو فنّ قادر على تدارك الفراغات التي يفرضها إيقاع الحياة المعاصرة على الإنسان، نفسياً واجتماعياً. وعليه، فما بات يعيشه المسرح، في ظل جائحة كورونا، ينمّ عن قوة حضوره في حياتنا، ذلك أن الأساليب التي ابتدعها مبدعوه للإبقاء على روح الإبداع مشعّة في عالمنا، حتى ولو من خلال ما تتيحه إمكانات العالم الافتراضي، إنما يبيّن كيف يمتلك هذا الفن القدرة على الصمود والاستمرار وابتداع أساليب جديدة للتعايش مع الأزمات.ولا شك في أن تاريخ المسرح سيتحدث عنها يوماً ما، باعتبارها لحظة تاريخية أو منعطفاً فرجوياً مميزاً أبرز من خلاله المسرحيون أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، كما يقال، وأن للمسرح صيغا وأشكالا بإمكانه أن يستمر من خلالها، فأشكال المسرح التي خلقتها الجائحة تسير في اتجاه إبداع مسرح أكثر خفّة يتماشى ويتلاءم مع ظروف إنتاجه وتلقّيه الجديدة في ظل التهديد الوبائي، وهو اختيار يسير تقريباً في الاتجاه نفسه الذي سار فيه المسرح المعاصر عندما دخل "منعطفاً سردياً"، وبات الحكي في المسرح أكثر انتشاراً، واستخدم أحياناً ليعوِّض الترسانة الكبيرة من الإمكانات التقنية والمادية التي يحتاج إليها المسرح المؤسسي عادة. فالمسرح، إذن، يلبس لكل حالة لبوسها، وهنا تمكن قدرته على التعايش والاستمرار مهما كانت الإكراهات.العرض المسرحي
*الاعتماد على التقنيات الحديثة بشكل كبير في سينوغرافيا العرض، هل يخطف الأضواء من الممثل أو يؤثر بشكل ما في المسرحية عموماً؟- عندما بدأت السينوغرافيا تفرض نفسها باعتبارها مكوناً بنيوياً أساسياً في العرض المسرحي، حدث نوع من الانزلاق، أو ما يمكن أن أسميه "النزعة السينوغرافية الفيتيشية" التي جعلت البعض يفكر في تأثيث الفضاء المسرحي بغضّ النظر عن الحضور الإنساني الحي للممثل، وهذه النزعة سببها أن البعض تصوَّر أن مهمة المسرح هي أن يقدّم "صوراً جميلة" فقط، فوقع نوعٌ من التماهي مع الجاذبية السينمائية المؤسسة أصلاً على لغة الصورة. ولاحظنا في بعض العروض العربية كيف تحوَّل الممثل إلى محرّك للقطع السينوغرافية جعلته خاضعاً لإكراهاتها، وكأنه دمية آلية مبرمجة لكي تقوم بهذه المهمة الميكانيكية والحال أن المسرح هو عالم الممثل أولاً، والمتفرّج حين يأتي إلى المسرح ينتظر أن يشاهد أدواراً وشخصيات بمواصفات محددة، تتحرك في فضاء يتم تأثيثه من أجله وليس العكس.*المسرح العربي ميّت.. يسير على ساق واحدة.. يشهد تراجعاً، هذه آراء لنقاد نسمعها منذ سنوات، لكن ما تقييمك أنت لحال المسرح راهناً، وكيف يمكن الارتقاء به؟-لا يمكن الحديث عن المسرح العربي هكذا بشكل عام، فبحكم متابعتي لما يجري في المشهد المسرحي، منذ نحو ثلاثين عاماً، ومن خلال ما أتيح لي مشاهدته في مهرجانات عربية ودولية، أرى أن المشهد المسرحي العربي يعيش مداً وجزراً إبداعيين لا ترسو على شواطئ ذاكرته المسرحية إلا تجارب قليلة جداً كل موسم مسرحي، حيث يتألق في أحسن الأحوال عرض أو اثنان، والغريب أن إشعاع هذه العروض لا يخرج عن الدوائر المغلقة لما يمكن أن أسميه "المجتمع المسرحي"، وهو مجتمع صغير مكوَّن من المهتمين بالمسرح، والمهرجانيين منهم تحديداً، بالتالي المسرح عندنا منقطع الصلة بمجتمعه، وبات أمراً نخبوياً وكل ما يجري فيه من احتدامات وتفاعلات وإشراقات هو من انشغال نخبة محدودة جدا، قياساً إلى ما تحتويه البلاد العربية من البشر، وإن الخلل الأعمق يكمن في التعاطي مع "الفكرة المسرحية" نفسها في مجتمعاتنا، حيث لم تتمكّن هذه النخب من الدفاع، لا فلسفياً ولا علمياً ولا سوسيولوجياً ولا بيداغوجياً، عن الجدوى من المسرح، بالتالي التفاصيل التي يخوض فيها المسرحيون، إبداعاً وتصوراً وخطاباً وممارسة، هي تجلٍ لهذا الخلل الأصلي.مجرد استهلاك
*كيف ترى التطور الحاصل في مسرح الحداثة وما بعد الحداثة؟ هل السبب في المتلقي أم في النص وطريقة العرض؟- هذا السؤال يحتاج إلى وقفات خاصة، أولاً لتدقيق المفاهيم وربطها بسياقاتها، فإذا كان ممكناً الحديث عن هذه الصيرورة الحضارية والفكرية والإبداعية المتصلة بالحداثة وما بعدها بالنسبة إلى الغرب، فأعتقد أننا ينبغي أن نتحفّظ كثيراً في الدخول بهذه المطبات بالنسبة إلى سياقنا العربي، فالأمر لا يعدو أحياناً مجرد استهلاك لخطابات وأفكار تروِّج في المشهد المسرحي إعلامياً، لكن لا أرضية لها في واقع الحال.الغرب عاش صيرورة تاريخية في علاقته بالمسرح تعود جذورها لقرون خلَت، بالتالي، فإن جدلية التقليد والتحديث في الرؤى والنظريات والنقلات المسرحية والممارسات الفرجوية هي جزء من صيرورة المجتمع الغربي، لكن عندنا الأمر يتعلق أحياناً بقفزات خطابية في الهواء، وذرّ لرماد المصطلحات الكبيرة على عيون مشهد مسرحي مرتبك ومختل، ولم يحسم أسئلته الجوهرية الخاصة.الخلاصات النهائية
*لك إسهامات إبداعية عديدة، فماذا عن مشروعك القادم؟-الانشغال بالمسرح وعوالمه لا يفتر بالنسبة إليّ، لكن ربما تغيرت الآن زاوية الرؤية بعد ثلاثين عاماً من التتبع اليومي لما جرى مسرحياً، كونياً وقومياً ووطنياً وأميل الآن، إلى أن أصوغ الخلاصات النهائية لمعايشتي للمسرح وعوالمه في سياقنا العربي قصد محاولة الإجابة عن سؤال واحد يؤرقني: لِمَ لم يستتب الأمر، لا ثقافياً ولا اجتماعياً، للمسرح في البلاد العربية؟ هذا هو مشروعي الآن الذي أعبئ له من القراءات والمتابعات والتحريات ما من شأنه أن يفسّر الاختلالات التي صاحبت "الفكرة المسرحية" في عالمنا العربي منذ أن عرفنا المسرح.