في الواقع، تُعد الخسائر العالمية الناجمة عن انتشار وباء "كوفيد- 19" هائلة، فقد أودى بحياة أكثر من نصف مليون شخص، وأصبح مئات الملايين من الأشخاص عاطلين عن العمل، وتسبب في تدمير تريليونات الدولارات من الثروة، والمرض لم ينته بأي حال من الأحوال، وقد يتسبب بوفاة مئات الآلاف من الناس مُستقبلا.

ليس من المستغرب أن يكون هناك اهتمام كبير بتطوير لقاح، حيث يتم إجراء أكثر من مئة تجربة في مختلف أنحاء العالم، ويبدو العديد منها واعدا، وقد يؤتي لقاح واحد أو أكثر ثماره، يستغرق عادة إنتاج لقاح بضع سنوات أو أكثر. ولكن حتى في حالة ظهور لقاح واحد أو أكثر، والذي يضمن جعل الناس أقل عرضة للإصابة بفيروس كورونا المُستجد، فلن يتم القضاء على مشكلة الصحة العامة، وكما سيشهد أي خبير طبي، فإن اللقاحات ليست علاجا سحريا. إنها مجرد أداة في الترسانة الطبية. ومن غير المُتوقع أن يُنتج أي لقاح مناعة كاملة أو دائمة لدى كل من يحصل عليه، وسيرفض ملايين الناس الحصول على التلقيح، فهناك حقيقة مُؤلمة مفادها أن هناك ما يقرب من ثمانية مليارات من الرجال والنساء والأطفال على هذا الكوكب، وقد يستغرق تصنيع ثمانية مليارات جرعة (أو الضعف إذا كانت هناك حاجة لأكثر من جرعة واحدة) من لقاح واحد أو أكثر وتوزيعها في جميع أنحاء العالم سنوات لا شهورا.

Ad

هذه كلها أمور تتعلق بالعلم والتصنيع والخدمات اللوجستية، ومن المؤكد أنها ستكون صعبة للغاية، لكن السياسة ستكون مُعقدة على نحو مُماثل.

بداية، من سيدفع مقابل اللقاح؟ تتوقع الشركات استرداد استثماراتها في البحث والتطوير، فضلا عن تكاليف الإنتاج والتوزيع، وهذا يُمثل بالفعل عشرات المليارات من الدولارات (وربما أكثر من ذلك بكثير)، حتى قبل طرح مسألة الربح، فهناك أيضا السؤال المتعلق بكيفية تعويض الشركات التي تُطور لقاحا إذا كان مطلوبا منها ترخيص براءات الاختراع والدراية للمنتجين في دول أخرى.

ومع ذلك، القضية السياسية الأصعب تتعلق بإمكانية الوصول إلى لقاح، فمن الذي يجب أن يتلقى الجرعات الأولية للقاح؟ ومن يحدد من يحصل على مكان في قائمة المُستفيدين وبأي ترتيب؟ وما المزايا الخاصة التي تعود على البلد الذي يتم تطوير اللقاح فيه؟ وإلى أي مدى ستتسبب الدول الغنية في استبعاد البلدان الفقيرة؟ وهل ستسمح البلدان بالتدخل الجيوسياسي وتتقاسم اللقاح مع الأصدقاء والحلفاء في حين تستبعد السكان الضعفاء في البلدان المُعادية؟

على المستوى الوطني، يتعين على جميع الحكومات النظر في كيفية توزيع تلك اللقاحات التي تنتجها أو تتلقاها، وتتمثل إحدى الأفكار في توجيهها أولا للعاملين في مجال الرعاية الصحية، يليهم رجال الشرطة ورجال الإطفاء والجيش والمُعلمين وغيرهم من العاملين الأساسيين، ويجب على الحكومات أيضا أن تنظر في الأولوية التي يجب إعطاؤها لمن هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بمضاعفات خطيرة لفيروس كورونا، مثل كبار السن والذين يعانون أمراضاً مُزمنة، فهل يجب أن يكون اللقاح مجانيا لبعض الأشخاص أم للجميع؟

على الصعيد الدولي، يبدو الوضع أكثر تعقيدا، فنحن في حاجة إلى ضمان إمكانية زيادة الإنتاج بسرعة، ووضع القواعد اللازمة لضمان توافره، والتعهد بتقديم مساعدات مالية كافية لتغطية احتياجات الدول الفقيرة، وقد عمل كل من التحالف العالمي للقاحات والتحصين "جافي" ومنظمة الصحة العالمية والعديد من الحكومات ومؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية على تشكيل مرفق الوصول العالمي للقاح فعال ضد فيروس كورونا المُستجد "كوفاكس"، ويقترح المُنتجون أن يتم التعامل مع أي لقاح فعال يظهر باعتباره منفعة عامة عالمية، وأن يتم توزيعه بالتساوي في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن مكان اختراعه أو قدرة أي بلد على الدفع، وقد طرحت منظمة الصحة العالمية إطارا لتوزيع عالمي يسعى إلى ضمان منح الأولوية للسكان الأكثر ضعفا والعاملين في مجال الرعاية الصحية.

لكن هذه الاستراتيجيات قد تكون غير واقعية، فلا يقتصر الأمر على أن الجهود المبذولة لتشكيل مرفق الوصول العالمي للقاح فعال ضد فيروس كورونا تفتقر إلى التمويل الكافي، ومشاركة الولايات المتحدة والصين، والسلطة الواضحة، بل من المُرجح أن تتعرض جميع الحكومات لضغوط هائلة لرعاية مواطنيها أولا، ومن شبه المؤكد أن تتغلب النزعة القومية الناتجة عن تطوير اللقاح على نظام متعدد الأطراف لاستخدام اللقاح. يُعزز التاريخ الحديث هذه الشكوك، فقد ظهر فيروس كورونا المُستجد أول مرة في الصين وسرعان ما أصبح مشكلة عالمية، ومع ذلك كانت الاستجابات في الغالب على أسس وطنية، فحققت بعض البلدان أداء جيدا نسبيا، وذلك بفضل أنظمة الصحة العامة القائمة وقيادتها السياسية، في حين حدث العكس تماما في بعض الدول الأخرى.

فعلى الصعيد الوطني يُعد استمرار هذا النهج لتطوير لقاح وصفة لكارثة، ولن يتمكن سوى عدد قليل من البلدان من إنتاج لقاحات قابلة للتطبيق، لذلك يجب أن يكون النهج عالميا، ليس لأسباب أخلاقية وإنسانية فحسب، بل لأسباب اقتصادية واستراتيجية أيضا، لأن الانتعاش العالمي يتطلب تحسنا جماعيا.

في العراق، حين فاق التقدم العسكري التخطيط لما بعد الحرب التي قادتها الولايات المتحدة، كانت النتيجة عبارة عن فوضى، أو ما يمكن اعتباره "نجاحا كارثيا"، ولا يمكننا تحمل نتائج مماثلة في هذه الحالة، حيث يتجاوز النجاح في المختبر التخطيط لما سيأتي بعد ذلك، لذلك يتعين على الحكومات والشركات والمنظمات غير الحكومية أن تجتمع بسرعة، سواء كان ذلك في مبادرة لتشكيل مرفق الوصول العالمي للقاح فعال ضد فيروس كورونا، أو تحت رعاية الأمم المتحدة أو مجموعة العشرين، أو في مكان آخر، وقد أخذت الحوكمة جميع الأشكال والأحجام على المستوى العالمي، فالأمر الأساسي هو أنها موجودة، وإن حياة الملايين من الناس والرفاهية الاقتصادية التي قد تبلغ المليارات، والاستقرار الاجتماعي في كل مكان، كل ذلك معرض للخطر.

* ريتشارد ن. هاس

* رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب "العالم: مقدمة موجزة".

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»