طموحات روسيا في المنطقة القطبية الشمالية
ركزت روسيا جهودها الأمنية عبر التاريخ على جبهتها الغربية، ولكنها كانت تشعر بقلق متزايد على جبهتها الشرقية.وقد شرعت الحكومة الروسية بتجديد اندفاعها نحو المنطقة القطبية الشمالية، وعلى الرغم من تحديات البيئة الاقتصادية العالمية فإن الكرملين يخطط لبناء ما لا يقل عن خمس كسارات جليد جديدة. وبحسب رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين فإن تلك الكسارات سوف تستخدم لتحقيق مزيد من التطور في طريق البحر الشمالي، عبر الساحل الروسي، في المنطقة القطبية. وقد أعلنت روسيا، الأسبوع الماضي، البدء ببناء مشروع "ليدر"، الذي يرمز إلى بناء أكثر كسارة جليد نووية قوةً بالعالم، في حوض سفن زفيزدا بإقليم الشرق الأقصى. ووفقاً لبيانات الحكومة الروسية، فإن المشروع يستحق الثمن المخصص له، لأنه سوف يساعد على امكانية الوصول الى طريق البحر الشمالي طوال السنة، كما يخدم ممر الترانزيت بين أوروبا وآسيا. ولكن مصلحة الكرملين في المنطقة القطبية الشمالية لا تقتصر على الفوائد الاقتصادية المحتملة، فهي تمتد الى مسألة ضمان حدود روسيا الشرقية.
الجبهة الشرقية
ركزت روسيا، منذ زمن طويل، جهودها الأمنية على الجبهة الغربية، وكانت التهديدات الرئيسية، التي استهدفت السلامة الإقليمية لروسيا، قد صدرت عن تلك المنطقة، ولذلك حرصت موسكو على إنفاق قدر كبير من الوقت والموارد، من أجل بناء أساطيلها في البلطيق والبحر الأسود. ولكن موسكو تركز اليوم على الجبهة الشرقية بشكل متزايد لأنها تواجه تهديدات متصاعدة من عدة مصادر، ويعمد البعض من تلك المصادر الى بناء قدرات بحرية مثيرة للقلق، كما أن اليابان والولايات المتحدة (عن طريق مضيق بيرنغ) والصين كلها دول جارة في تلك المنطقة، وعلى الرغم من أن من غير المحتمل أن تشن أي واحدة من تلك الدول عملاً عسكرياً ضد الشرق الروسي فإن موسكو حرصت على عدم المجازفة، واتخذت خطوات تهدف الى زيادة قدرات أسطولها القتالية، بغية التأكد من عدم قدرة أي دولة على حجب قدرتها على الوصول إلى المحيط الهادئ. وإضافة الى ذلك، تواجه موسكو تهديدات داخلية لأن تلك المنطقة تتسم بكونها نائية وكثيفة وذات بنية تحتية ضعيفة، وهي عوامل تجعل من الصعب السيطرة عليها، كما أن الحفاظ على وحدة مثل تلك المنطقة الواسعة يتطلب جيشاً قوياً.ومن هذا المنطلق، شرعت روسيا بتعزيز وجودها العسكري هناك، عن طريق تطوير القاعدة الفنية لأسطول المحيط الهادئ، وتحسين فعاليته القتالية، ويضم ذلك الأسطول في الوقت الراهن 58 سفينة و20 غواصة، بما في ذلك غواصات مزودة بصواريخ استراتيجية وطائرات وغواصات نووية متعددة الأغراض. وفي حقيقة الأمر، فإن أسطول المحيط الهادئ هو ثاني أكبر أساطيل روسيا وأكثرها فعالية، ولديه شريحة واسعة من الأهداف تشمل حتى حماية المنطقة الاقتصادية الحصرية لروسيا، وضمان الوصول الى زوارق تجارية وعسكرية. وتعتبر منطقة عمله، التي تشمل المنطقة القطبية الشمالية ونصف الكرة الأرضية الجنوبي والمحيط الهادئ والمحيط الهندي، الأكبر بين كل الأساطيل الروسية.الفعالية القتالية
ومن أجل الحفاظ على قدراته القتالية فإن أسطول المحيط الهادئ في حاجة الى تحديث مستمر، وتزويده بمعدات حديثة، ولكن ذلك يتطلب توفير استثمارات ضخمة، اضافة الى دعم لوجستي متقدم، لأن نقطة ضعفه الرئيسية تتمثل في مسألة البعد وضعف ارتباطه مع مراكز روسيا والأساطيل الاخرى. ويرجع ذلك إلى أن الطرقات والبنية التحتية في تلك المنطقة من البلاد ضعيفة، وتوجد 3 خطوط حديدية فقط تربط الشرق الأقصى بمركز روسيا، على الرغم من وجود عدة مشاريع لخطوط حديدية قيد الانشاء، ولكنها لن تدخل الخدمة قبل عام 2030. ولذلك تتحول روسيا في الوقت الراهن نحو طريق بديل من أجل ربط أسطول المحيط الهادئ مع بقية أنحاء البلاد: طريق البحر الشمالي.نشاط كاسرات الجليد
تهدف استراتيجية روسيا البعيدة الأجل الى تحويل طريق البحر الشمالي الى ممر نقل يمكن استخدامه طوال العام، من ميرمانسك الى فلاديفستوك، حيث يوجد المقر الرئيسي لأسطول المحيط الهادئ. ولكن حتى مع الأخذ في الحسبان تأثير الاحتباس الحراري العالمي، فإن من غير المحتمل ذوبان الجليد في تلك المنطقة الشمالية بصورة كافية، خلال الأعوام العشرة الى العشرين المقبلة، من أجل استخدام المياه من قبل المراكب التجارية أو الحربية، وهذا يعني أن مستقبل أسطول المحيط الهادئ يتوقف بشكل رئيسي على مدى سرعة وفعالية خلق الكرملين لشبكة موحدة تربط بين البنية التحتية للأسطول وبين المركز. ونظراً لسماكة الجليد في تلك المنطقة، والتي قد ترتفع إلى أكثر من مترين، يصعب تخيل امكانية تحقيق ذلك من دون وجود أسطول عصري من كاسرات الجليد.وتفاخر روسيا بأنها الدولة الوحيدة، التي تملك أسطولاً من كاسرات الجليد يعمل بالطاقة النووية، ويضم واحدة تدعى يامال وأخرى تدعى 50 عاماً من النصر، إضافة الى اثنتين أصغر حجماً تطلق عليهما اسم تيمير وفيغاش.ولكن ذلك الأسطول في حاجة الى تنشيط وفاعلية كما أن 3 من كاسرات الجليد النووية الأربع سوف تتوقف عن العمل بحلول عام 2030، في حين ستخرج الرابعة من الخدمة في عام 2035. ومن هذا المنطلق تخطط روسيا لصنع كاسرات جليد جديدة. وتشير الأنباء المحلية في روسيا إلى أن روزاتومفلوت، التي تقوم بتشغيل الكاسرات الأربع المذكورة، سوف تتسلم 3 كاسرات جليد جديدة هي (أركتيكا وسيبيريا وأورال)، على شكل جزء من مشروع يدعى 22220. وقد وصلت أركتيكا إلى المرحلة النهائية في أواخر شهر يونيو الماضي، وتصل تكلفة الكاسرتين الإضافيتين الى 1.4 مليار دولار.وإضافة الى ذلك، فقد وافقت الحكومة الروسية في شهر يناير الماضي على ميزانية صنع كاسرة الجليد "ليدر"، التي بلغت 127.5 مليار روبل، وتعمل بالطاقة النووية، وتستطيع تحطيم ما يصل الى 4.3 أمتار من الجليد، كما يمكنها العمل طوال العام. وتخطط موسكو لإنتاج 3 كاسرات من نوع "ليدر" بحلول عام 2033. ويخطط الكرملين لاستخدام ما لا يقل عن 13 كاسرة جليد من بينها 9 تعمل بالطاقة النووية.هموم التمويل
وعلى الرغم من أن التكلفة الاجمالية لكل تلك المشاريع ليست معروفة على وجه التحديد، فإن من المؤكد أنها لن تكون رخيصة، وكاسرات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية –إضافة الى الموانئ والطرقات والبنية التحتية اللازمة للتشغيل– مكلفة بصورة كبيرة. ويعتبر الكرملين الممول الرئيسي لتلك المشاريع، ولكن نظراً للانهيار الذي شهدته أسعار النفط في الفترة الأخيرة، وتداعيات انتشار وباء كورونا المستجد، فقد غدت الميزانية محدودة جداً.ونتيجة لذلك بدأ الكرملين البحث عن وسائل اخرى لتمويل تلك المشاريع، وقد كشف عن استراتيجية جديدة تهدف الى تطوير المنطقة القطبية الشمالية حتى عام 2035، وتشمل جذب استثمارات وخلق وظائف، ويريد الكرملين أيضاً بناء طريق تجارية في المنطقة القطبية الشمالية تهتم بالملاحة الدولية، وهو مشروع يحظى بأولوية لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ طرح الفكرة في عام 2018. ويعتقد بوتين أن حصيلة الشحن عبر طريق البحر الشمالي يمكن أن تصل الى 80 مليون طن بحلول عام 2024، وهو هدف طموح جداً، نظراً لأن الحصيلة كانت 10.7 ملايين طن في عام 2017، و20.2 مليون طن في عام 2018، و31.5 في عام 2019. وتجدر الاشارة الى أن هدف الرئيس بوتين يمكن أن يتحقق من خلال استثمارات ضخمة فقط، وتوسيع حدود طريق البحر الشمالي بحيث تشمل بحار بارنتس ووايت وبيتشورا وبيرنغ وأوخستوك. وفي الأجل القصير، تسعى موسكو الى زيادة اهتمام الاستثمار في ذلك الطريق، الذي يعني توفير حوافز وتطوير علاقات تجارية وخلق بيئة أعمال ملائمة. وتدعم وزارة الموارد الطبيعية الروسية بصورة عامة تحرير السبيل إلى جرف المنطقة القطبية الشمالية، وفي 23 يونيو الماضي أقر مجلس الدوما مشروع قانون في قراءة ثانية يقضي بتشكيل نظام خاص للشركات العاملة في تلك المنطقة مع توفير منطقة حرة للجمارك هناك.● إيكاترينا زولوتوفا