مازال المستثمر الزامبي ديباك باتيل يتذكر تلك الزيارة العظيمة التي قام بها للعاصمة الصينية (بكين)، واستقباله مع باقي أعضاء الوفد في قاعة الشعب الكبرى، وصفوف الحرس الصيني، والعشاء الفاخر، وعزف فرقة الموسيقى العسكرية الصينية للعديد من الأغاني الزامبية المحلية.في ذلك الوقت كان باتيل وزيرا للتجارة في زامبيا، وشارك بالوفد الذي زار الصين، لتعزيز العلاقات بين البلدين، وتأمين التمويل الصيني لمشروعات البنية التحتية في زامبيا.
وفي حين كان أغلب أعضاء الوفد مستعدين للقبول بأي شيء يُعرض عليهم لتمويل مشروعات، مثل: إقامة سد لتوليد الكهرباء، واستاد لكرة القدم يسع نحو 50 ألف متفرج، كان باتيل يدعو إلى توخي الحذر. يقول باتيل في تصريحات لوكالة بلومبرغ للأنباء: «كانت وجهة نظري أننا نحتاج إلى إقامة شراكة استراتيجية مع الصين، مع ضرورة التفكير باستمرار في ذلك، لكنني كنت مجرَّد صوت واحد في الحكومة».وتذكر «بلومبرغ»، أن تحذير باتيل ذهب أدراج الرياح، وبدأت زامبيا تقترض من البنوك الصينية لتمويل إقامة المطارات والمستشفيات والمشروعات السكنية والطرق التي تربط بينها. وأصبحت الديون الصينية تمثل حوالي ثلث إجمالي الديون الخارجية لزامبيا، والتي زادت بمقدار 7 أمثال خلال العقد الماضي، ما أجبر الحكومة على طلب إعادة جدولة هذه الديون خلال العام الحالي.والآن أصبح باتيل مستثمرا في قطاع العقارات، وأقام دعوى قضائية للطعن في قانونية مليارات الدولارات التي اقترضتها زامبيا دون الحصول على موافقة البرلمان. وقال: «لا أحد غير الحكومة يعرف شروط هذه القروض»، والحكومة تقول إنها لا تحتاج إلى موافقة البرلمان على الاقتراض.والآن أصبح باتيل واحدا من عدد متزايد من النشطاء وصُناع السياسة في إفريقيا الذين يشككون في جدوى القروض الصينية للقارة الإفريقية، والتي وصلت إلى نحو 180 مليار دولار عام 2018، وفق الباحثين في جامعة جونز هوبكنز الأميركية.ويراجع البرلمان النيجيري حاليا القروض الصينية التي يقول أعضاؤه إن شروطها لم تكن في مصلحة البلاد. ويطالب النشطاء في كينيا الحكومة بإعلان شروط القروض الصينية المستخدمة في إقامة خط سكك حديدية بطول 470 كيلومترا. وقال الرئيس التنزاني جون ماجوفولي عن اتفاقية وقَّعها سلفه مع مستثمرين صينيين لإقامة ميناء ومنطقة اقتصادية بقيمة 10 مليارات دولار، إنها اتفاقية «لا يوقعها إلا رجل مجنون».وفي حين سيكون من الصعب جدا على الحكومات الإفريقية التي تعاني صعوبات مالية بالغة الحصول على الكثير من التنازلات من الجانب الصيني، فإن الموجة الوشيكة للعجز عن سداد القروض في إفريقيا ستمثل أكبر اختبار للنفوذ الصيني بالمنطقة.ويقول كريس ألدين، أستاذ الشؤون الدولية في كلية لندن للاقتصاد: «هذا يمكن أن يؤدي إلى أكبر تغيير في العلاقات منذ أصبحت الصين لاعبا اقتصاديا أساسيا في القارة. الحكومات والمجتمعات الإفريقية تطالب الصين بصورة متزايدة بتقديم حلول لهذه المشكلة»، في إشارة إلى مشكلة تراكم الديون والعجز عن سدادها.وتشير «بلومبرغ» إلى أنه يمكن بسهولة ملاحظة الوجود الصيني بإفريقيا. ففي دولة غينيا بيساو الصغيرة توجد لافتات إرشادية باللغة الصينية على أحد مباني الحكومة. وفي موزمبيق تموِّل الصين مشروع الجسر المعلَّق، الذي يبلغ طوله ميلين اثنين، وهو أطول جسر معلَّق في القارة، ويربط بين العاصمة والمنتجعات الساحلية وجنوب إفريقيا المجاورة. كما ساهمت الصين في تمويل مشروع متحف الحضارات السمراء في السنغال، والذي يضم جناحا للفنون الصينية.وقد أصبحت الصين أكبر مموِّل لمشروعات البنية التحتية في إفريقيا، من خلال مؤسسات، مثل: بنك التصدير والاستيراد الصيني، وبنك الصين للتنمية، والتي تموِّل نحو 20 في المئة من المشروعات الكبرى في القارة، وفق مؤسسة ديلوت للاستشارات الاقتصادية.في الوقت نفسه رهنت الحكومات الإفريقية العائدات المستقبلية لصادرات البلاد من السلع الخام، مثل: النفط والكاكاو والنحاس، كضمانة لنحو ربع القروض الصينية.ووفق تقديرات معهد كايل الألماني للدراسات الاقتصادية، فإن نصيب الصين من ديون القارة الإفريقية الآن أصبح يزيد على إجمالي نصيب صندوق النقد والبنك الدوليين ودول نادي باريس مجتمعة، رغم أن مؤسسات التمويل الخاصة من مختلف أنحاء العالم مازالت تمثل نحو نصف إجمالي الدين الخارجي للدول الإفريقية.ونظرا لأنه لا يتم إعلان الكثير من القروض الصينية للدول الإفريقية، فهناك شكوك قوية في أن ديون إفريقيا للصين أكبر كثيرا من التقديرات. وذكر معهد كايل، أن نحو نصف القروض التي قدَّمتها الصين للدول النامية، أي نحو 200 مليار دولار، لم يتم تسجيلها لدى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حتى عام 2016. ويعني غياب إعلان القروض أن الكثير منها لا تخضع للتدقيق والمحاسبة، وهو ما يثير المخاوف من وصول معظم هذه الأموال في النهاية إلى جيوب المسؤولين الفاسدين أو الوسطاء. وهناك رجل أعمال من هونغ كونغ يُدعى سام با يعتقد أنه كان وسيطا في قروض بمليارات الدولارات في إفريقيا، وتم اعتقاله بالصين عام 2015، في إطار حملة ضد الفساد.وتتهم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الصين بأنها تثقل كاهل الدول الفقيرة بديون لا يمكن سدادها، بهدف الاستيلاء على الأصول القيمة لتلك الدول، وتعزيز نفوذها لدى حكوماتها. لكن بعض الباحثين قالوا إن المخاوف من تداعيات القروض الصينية لدول إفريقيا مبالغ فيها.ووفقاً لدراسة أعدَّتها مبادرة بحث الصين وإفريقيا في جامعة جونز هوبكنز، فإن الصين لم تستحوذ على أي أصول، ولم تلجأ إلى المحاكم لإجبار الدول المدينة على سداد ديونها. ووفق مُعدي الدراسة، فإن الصين تفضِّل انتظار الدول المدينة حتى تطرح أصولها للخصخصة، فتشتريها الشركات الصينية لسداد الديون، كما حدث عندما باعت سريلانكا حصة الأغلبية في أحد الموانئ إلى شركة صينية عام 2017 لسداد ديون مستحقة للصين.
دوليات
القروض الصينية تتحول إلى كابوس لدول إفريقيا
24-07-2020