نقطة: أول الخصخصة... حنجلة!
يُطرح موضوع الخصخصة بين الحين والآخر، وكأنها الحل السحري لعُقد الكويت الروتينية والبيروقراطية المؤدية لطريق الفساد المالي والإداري، الذي نسير فيه بأمان والحمدلله، بينما الموضوع قد يكون أكبر وأعمق من ذلك بكثير، فخصخصة المرافق العامة بلا رقابة حقيقية وفاعلة لا تحابي ولا تضع أي اعتبارات أمامها سوى صحيح القانون، لن تردع الرغبة في التربح بطرق ملتوية وغير مشروعة، كما أن مجرد وجود الأجهزة الرقابية لا يعني بالضرورة قيامها بواجباتها المنوطة بها على أكمل وجه، فالرقابة قد تحتاج لمن يراقبها وإلا انحرف الرقيب والمراقَب بالنهاية، فلا طبنا ولا غدا الشر، وتحملنا مزيداً من الهدر بلا طائل، وما سيتغير فقط هو أن الأيدي ستنتقل للغَرْف من جيب الدولة إلى الشفط من جيوب المواطنين، مما قد يجعل النتيجة أوخم وأكثر ضرراً على جميع الأطراف في المدى البعيد.إذا نظرت حولك سترى العديد من الأمثلة القديمة نسبياً على خصخصة بعض المرافق أو الأعمال الحكومية، وسترى أنها أدت إلى نتائج عكسية للأهداف المتوخّاة منها أو لتوجهات الدولة المعلنة، فمحطات البنزين مثلاً بعد خصخصتها امتلأت بالعمالة الهامشية، بعد أن كانت سابقاً تعمل بالخدمة الذاتية وبأقل عدد من الموظفين والربح مضمون، وكذلك بعد أن خصخصت البلدية أعمال التنظيف فتحت الأبواب للعمالة السائبة وتجارة البشر وبتكاليف باهظة مادياً واجتماعياً وسياسياً.
وما يعنينا اليوم، والذي قد ينبئ عن شكل مستقبل ما قد يحدث لخصخصة مرافق أكثر أهمية ومساساً بحياة المواطن اليومية؛ كشركتي المطاحن والمواشي مثلاً، ما هو جارٍ ومستمر منذ عام ونصف من إنشاء شركة "بورصة الكويت"، لتحل محل سوق الكويت للأوراق المالية، التي يأتمنها المواطنون والشركات على أموالهم وأسهمهم، ولن أتطرق هنا للترسية على مزايد وحيد أو الالتزام بشرط المشغّل الأجنبي، الذي توقعنا أن يرفعنا مع بورصة لندن أو نيويورك فشمّسنا على الشاطئ مع بورصة اليونان، التي قد تكون هي الأخرى أحوج منا لمشغّل أجنبي ليشغلها، لكن الأهم هو ما حدث بعد الخصخصة لصالح تحالف الشركات المحلية مع المشغل الأجنبي، فالهيئة الرقابية المعنية هنا، وهي هيئة أسواق المال، اشترطت في المشغل المحلي أن يكون بنكاً أو شركة استثمارية أو تمويلية مسجلة بالبنك المركزي، ومرخصة من ذات الهيئة، مع عدم التصرف بالحصة من أسهم شركة "بورصة الكويت" مدة ٥ سنوات، إلا بعد موافقة ذات الهيئة أيضاً، وما جرى حتى الآن هو عكس ذلك تماماً، فإحدى شركات التحالف الفائز، والتي كانت تنطبق عليها الشروط آنذاك باعت حصتها بأسهم "شركة البورصة" بأقل من السعر السوقي، وهذا أمر يخص مساهميها وحدهم، ولا يمنع من وجود الرقابة أيضاً لحماية حقوق صغار المساهمين، إنما الأهم وما يعني آلاف المواطنين من مساهمي "شركة البورصة" والمتداولين فيها، هو أنها بيعت قبل مرور شرط الخمس سنوات ولمشترٍ لا تنطبق عليه شروط الترسية أساساً، وهذا ما سينعكس بالضرورة على حسن إدارة وتشغيل مرفق البورصة، وإلا لما وضعت مثل هذه الشروط الخاصة من البداية، فالاشتراطات الفنية والتخصصية كانت محل اعتبار عند الترسية، بهدف تطوير المرفق وتشغيله وإدارته بصورة حسنة، لأجل تقديم الخدمة الجيدة للمواطنين والاقتصاد الوطني، وليس تمهيداً للمضاربة بأسهم المرفق العام، فأصبحت الشروط مجرد جسر للعبور والبيع للآخرين، وليست التزامات فعلية على عاتق المشتري بحسن الإدارة، ناهيك عما فات المال العام من ربح، وهذه قصة أخرى، لكن اللافت هنا هو سكوت الرقيب بل وموافقته، والرقيب على الرقيب وهو وزير التجارة ساكت أيضاً، والرقيب على رقيب الرقيب وهم أعضاء مجلس الأمة في سبات عميق، أبلغتكم من البداية أن موضوع الخصخصة قد يكون أكبر وأعمق بكثير مما يبدو، وقد نصل معه إلى نتيجة أن طمام المرحوم قد يكون أرحم لنا من المرحوم بلا طمام.