مرحباً بعالم ما بعد أميركا
رسم فريد زكريا ست قواعد من شأنها المواءمة بين القوة الناعمة لأميركا وقوتها الصلبة ووسط عالم جديد بات يملك عدداً من اللاعبين الأقوياء، وهو ما يعني وجود المزيد من المنافسين والمفاوضين الذين سيكون لديهم مصلحة في الحفاظ على السلم والاستقرار الدوليين.
العنوان مأخوذ من مقال لأحد أبرز الصحافيين في أميركا، والذي يقدم نفسه من الإعلاميين الليبراليين والمقربين من الديمقراطيين، فريد زكريا، سبق أن أصدر كتاباً نال شهرة واسعة وبعنوان "عالم ما بعد أميركا". أَعدْتُ قراءة الكتاب وظننت للوهلة الأولى أنه إجابة عن السؤال الأكبر، أميركا ما بعد كورونا، تبين أنه صدر بعد أزمة إنفلونزا الطيور والانهيار العالمي إثر كارثة الرهونات العقارية عام 2008 والتي ضربت العالم، وكأنها حدثت بالأمس! كانت أسوأ انهيار مالي منذ الكساد الكبير عام 1929، ضاعت فيه 40 تريليون دولار وأصبحت أميركا "أمة من المدينين" نشأت في قلب الرأسمالية العالمية وشقت طريقها عبر شرايين نظام المال الدولي. ينعى فريد زكريا تلك "الإمبراطورية المتعجرفة" التي حكمت العالم كقوة أحادية الجانب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1991. البعض وصف الصحافي والكاتب المتمرس في كبريات الصحف والتلفزيونات الأميركية والمتخصص بالعلاقات الدولية بـ"فوكوياما الهندي" الذي يجيد تفكيك ظواهر العالم!
يؤكد زكريا أنه لن يوجد نظام دولي من دون الولايات المتحدة الأميركية ويرى أن دورها سيستمر في ترتيب أحجار شطرنج التحالفات لمواجهة الأزمات الدولية، وكأنه يتحدث بلغة اليوم، وإن مضى على صدور الكتاب عدة سنوات، ففي مقالاته التي ينشرها في "الواشنطن بوست" يصف دونالد ترامب بأنه سرطان الديمقراطية الأميركية، فهو شخصية ليست مختلفة لأنه بغيض أو لأن تعاملاته التجارية تظهر أنه غير صادق فقط، بل لأنه مختلف بسبب ما يؤمن به! يعتقد أن أميركا تبخترت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي كتمثال ضخم لا مثيل له، جعل واشنطن متعجرفة ومهملة وكسولة، وهذا ما رأيناه في أزمة كورونا وانكفائها نحو الداخل وترك الساحة الدولية للصين التي عملت على ملء الفراغ واستغلال الوقت جيداً، فسياستها الخارجية كانت تشبه استراتيجية شركة جنرال موتورز في أواخر السبعينيات أي أنها تعمل وفق مقاربة مدفوعة بعوامل داخلية واهتمام أقل بالبيئة الواسعة من حولها. من هنا يدعوها إلى التوقف عن الخوف والذي أنتج بدوره جواً من الشك والذعر الذي جعلها ترتكب أخطاء استراتيجية ومن جانب واحد، بحيث صارت مشحونة بالقلق، أي القلق من الإرهاب والدول المارقة، ومن إيران النووية ومن جارتها المكسيك ومن المهاجرين والمسلمين عموماً.يصل إلى قناعة، إذا خففت واشنطن قبضتها على مراكز النفوذ في العالم فقد يؤدي ذلك إلى الفوضى وفي حال بالغت في استخدام القوة، سيدفع الدول الأخرى للنفور منها! لكن كيف ستبدو أميركا وسط "العالم الجديد"، وما "الوصفة" التي اقترحها من واقع خبرته ومعرفته؟ ستبقى أميركا هي القوة العظمى في العالم، وسيستمر نهوض دول ناشئة أهمها الصين والهند والبرازيل في مراكمة قوتها، إنما الهيمنة لن تخرج من يد واشنطن على المستويين العسكري والسياسي، وبرأيه أن الدول الناهضة ستصبح أكثر ديمقراطية وانفتاحا وتقبلا لنظام السوق وسنرى عالما متعدد الأقطاب تزداد فيه قوة الدول الأخرى، وقناعته أن المشكلات الخارجية ستنتهي في الغالب بحضن واشنطن. عالم ما بعد أميركا اكتشفته الشركات المتعددة الجنسيات قبل أن تعترف به إدارة البيت الأبيض، فقد غيرت أساليبها القديمة وضرب على ذلك مثلاً بإدارة شركة جنرال إلكتريك التي لم تكن تثق بالسابق بمشاريع مشتركة في الخارج، بل كانت تريد مئة في المئة من كل مشروع أجنبي تمتلكه، واضطرت إلى أن تستبدل استراتجيتها، كما يقول مديرها التنفيذي "تعلمنا أنه من الأفضل أن نتشارك مع الشركة رقم 3 والتي تريد أن تصبح رقم (1) من أن نشتري شركة صغيرة أو نقوم بالعمل لوحدنا". هذا الواقع الجديد أخذت به الإدارة الأميركية، وإن كان متأخراً، فالكلفة أصبحت مرتفعة عليها بسبب سياستها الخارجية القائمة على النزعة "الإمبراطورية المتعجرفة"! رسم فريد زكريا الذي يقدم برنامج على شبكة CNN باسم "GPS" ست قواعد من شأنها المواءمة بين القوة الناعمة لأميركا وقوتها الصلبة ووسط عالم جديد بات يملك عدداً من اللاعبين الأقوياء، وهو ما يعني وجود المزيد من المنافسين والمفاوضين الذين سيكون لديهم مصلحة في الحفاظ على السلم والاستقرار الدوليين كما يدعي، وهي على التوالي: 1- تحديد الأولويات والمصالح الاستراتيجية والابتعاد عن التدخل في كل شيء. 2- إنشاء مجموعة من القواعد والعادات والقيم ليلتزم بها "العالم الجديد". 3- الانخراط مع جميع القوى العظمى كما فعل بسمارك. 4- نظام دولي تعالج فيه المشاكل من خلال مجموعة متنوعة من البنى والحلول. 5- عدم الانجرار إلى الأفخاخ التي تملكها المجموعات الصغيرة (إرهاب– مخدرات– مهاجرون). 6- البحث عن "الشرعية" المفقودة، فالقوة المفرطة لا تصنع الشرعية وهذا نقص جوهري، فمغني الروك "بونو" على سبيل المثال، أتاحت له الشرعية تغيير سياسة حكومية من شأنها إلغاء الديون، بحيث تمثلت قوته في القدرة على تجسيد المثل الأخلاقية والفكرية. كانت العبارة التي قالها نيكولاي ساركوزي بعد فوزه بالرئاسة الفرنسية عام 2007 والمعجب بالنموذج الأميركي، عندما التقى كونداليزا رايس، سألته: ماذا يمكنني أن أفعل لك؟ أجابها "حسَنوا صورتكم في العالم"؟
عالم ما بعد أميركا اكتشفته الشركات المتعددة الجنسيات قبل أن تعترف به إدارة البيت الأبيض