عولمة أفضل

نشر في 26-07-2020
آخر تحديث 26-07-2020 | 00:00
إن العولمة أدت الى بروز إحباطات ومخاوف مشروعة لا يمكن التخفيف منها ببساطة من خلال استذكار الفوائد الضخمة التي جلبتها العولمة، ولكن عوضا عن محاولة التراجع عن العولمة علينا الانخراط في محاولة متزنة لبناء عولمة أفضل.
 بروجيكت سنديكيت لقد أدت جائحة "كوفيد-19" إلى المزيد من التفكير العميق في وضع العولمة وسلبياتها في زمن التعطيل على مستوى العالم والفوائد المفترضة للانعزال ضمن المستوى الوطني، وفي هذا المعنى وكما هي الحال في قضايا أخرى فقد نتج عن الأزمة الحالية تسريع التوجهات الموجودة أصلا، فالنسبة والتناسب بين التجارة العالمية والناتج المحلي الإجمالي- وهي واحدة من المؤشرات الرئيسية للعولمة- قد أخذت منحى تنازليا منذ سنة 2012 وزادت شعبية الحركات السياسية المعادية للعولمة منذ فترة طويلة.

وهذه الحركات لديها أسباب جيدة لعدم الثقة بالعولمة، حتى أن لديها أسبابا أكثر الآن، فشح المواد الحيوية– من الكمامات الى الخميرة– سلط الضوء على محدودية المرونة والصلابة لسلاسل التوريد العالمية التي تنتج الكثير مما نستخدمه، وذلك بسبب تركزها الزائد على الحد في بضع دول ونقص المخزونات الأساسية، إضافة الى ذلك نتج عن العولمة العديد من الخاسرين ضمن الدول وخصوصا في العالم المتقدم.

لقد تجلت هذه الظاهرة على وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأميركية، حيث إن معدل الدخل لما نسبته 50% من الناس الأكثر فقرا انخفض بين 1980 الى 2010، ومن المؤكد أن نقل الإنتاج من المستوى المحلي للمستوى الخارجي لم يكن السبب الوحيد ولكنه سبب جوهري.

لكن يجب أن نقاوم إغراء تعديل الإنتاج المرتبط بالعولمة برمته، فبدهيات آدم سميث عن التخصص وبدهيات ديفيد ريكاردو المتعلقة بالميزة التفضيلية لا تزال صحيحة اليوم كما كانت قبل 200 سنة، وبشكل عام فمن الواضح أن العولمة كانت مفيدة، حيث انتشلت المليارات من البشر من براثن الفقر، وعليه يجب أن يكون تركيزنا على إصلاحها عوضا عن تدميرها.

بادئ ذي بدء فإن المنظمات التي تروج للتكامل الاقتصادي الإقليمي يجب أن تعزز تطوير سلاسل القيمة الإقليمية للبضائع المهمة استراتيجيا، ليس الرقائق الالكترونية فقط، بل أيضا الاحتياجات الأساسية مثل الطعام. وإن تجنب النقص المستقبلي للبضائع الأساسية سيتطلب من الشركات التحول من الإنتاج عند الحاجة الى نموذج الإنتاج المسبق الذي يعطي الأولوية لضمان التوريد على كفاءة التكلفة المثلى، وهذا لن يؤدي بالضرورة الى الاكتفاء الذاتي لكنه سيتطلب شبكات توزيع عالمية أكثر تنوعا.

يجب أن نستمر كذلك في محاربة انعدام المساواة الكبير الذي نشأ ضمن البلدان نفسها، ويجب على الحكومات على المستويين الوطني والمحلي تأسيس آليات حماية كافية لضمان الحقوق الأساسية للعمال ومنحهم آفاقاً واعدة للعيش الكريم، وهذه الإجراءات تتضمن أنظمة الحد الأدنى للدخل والاستثمار في التعليم ضمن قطاعات المستقبل الاقتصادية وبرامج التوظيف العام والمرتبطة بالتحول القادم للاقتصاد الصديق للبيئة.

يجب على صناع السياسات التعامل بشكل عاجل مع أوجه الضعف في نظام التجارة العالمي، فالاختيار القادم للمدير العام لمنظمة التجارة العالمية سيكون حاسما، وبغض النظر عمن سيتم اختياره فإن أمامه مهمة صعبة لإنعاش المنظمة التي تأثرت سلبا بسبب فشل جولة الدوحة والسلطة الحالية المتوافرة للدول الأعضاء لإعلان أنفسها كدول متقدمة أو نامية بدون الإشارة الى معايير موضوعية والشلل الذي أصاب هيئة الاستئناف في المنظمة، علما أن هذه الهيئة هي حجر الزاوية لنظام تسوية المنازعات لمنظمة التجارة العالمية وبدونها فإن خطر الحروب التجارية سيزداد بشكل دراماتيكي.

عندما يتحدث الناس عن العولمة اليوم فإنهم بالضرورة يشيرون الى نمو التجارة العالمية وحرية حركة رأس المال المالي، ولكن وكما أشار الاقتصادي داني رودريك فإنه لا يوجد سبب لتقتصر العولمة على تلك العمليات فقط، وعلى وجه الخصوص يتعين علينا أن ننظر بشكل أعمق الى الإدارة المشتركة لما يطلق عليه المنافع العامة العالمية وذلك حتى تصبح إحدى الابعاد الرئيسة للتعاون العالمي.

التهديدات الخطيرة والشاملة مثل "كوفيد-19" والتغير المناخي يمكن التعامل معها بشكل فعال فقط على المستوى العالمي، والإجراءات الأحادية التي يقوم بها اللاعبون الاقتصاديون والحكومات الوطنية لن تكون كافية، لأن مجموع تلك المبادرات لا يمكن على الاطلاق أن يحل مكان التعددية الفعالة.

والوقاية من الجوائح وغيرها من مخاطر الصحة العامة تتطلب تمكين منظمة الصحة العالمية سياسيا واقتصاديا، ومن الواضح أن القرار غير المسؤول للرئيس الأميركي دونالد ترامب لسحب الولايات المتحدة الأميركية من منظمة الصحة العالمية يشكل خطوة في الاتجاه المعاكس، علما أن الدافع لمثل ذلك القرار هو الدعاية الانتخابية قصيرة النظر.

يجب على صناع السياسات وبشكل عاجل استكشاف إمكانية اجراء إصلاحات منطقية لمنظمة الصحة العالمية بما في ذلك تعزيز تمويل المنظمة، وذلك من خلال زيادة المساهمات الإجبارية للدول الأعضاء، وطبقا للوضع الحالي فإن أكبر مساهم وحيد لمنظمة الصحة العالمية في 2020-2021 لن يكون دولة بل مؤسسة بيل وميلندا غيتس، وهي جهة مانحة من فاعلي الخير، وهذا الوضع غير المقبول يجب أن يتغير كما يجب أن يكون لدى منظمة الصحة العالمية كذلك عدد كاف من الموظفين وقدرات كافية للتفتيش وفرض عقوبات ملزمة على الدول الأعضاء، وبالتالي تتحقق أولوية المصالح الوطنية.

فيما يتعلق بالبيئة يجب أن نعترف أن وقف التغير المناخي هو معركة القرن، فنحن بحاجة لتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص للمساعدة في التحول الى نماذج إنتاج مستدامة على ضوء أن بناء اقتصاد صديق للبيئة يمكن أن يكون مربحا الآن بالإضافة الى فائدته للأجيال القادمة، فالسياق الحالي يقدم لنا فرصة ترسيخ الشروط الصديقة للبيئة في جميع أدوات التعافي الاقتصادي، كما ثبت من خلال صندوق التعافي التاريخي والذي كشف عنه قادة الاتحاد الأوروبي مؤخرا.

أخيرا فإن المدن وغيرها من اللاعبين يجب أن يؤدوا دورا أكثر أهمية في النقاشات العامة المتعلقة بهذا الموضوع، وإن مبادرة سي 40 التي تجمع معا 96 مدينة رئيسة في المعركة ضد التغير المناخي تشكل مثالا ملهما في هذا الخصوص.

والاستثمار في التعافي الاقتصادي الذي يتجاهل الحاجة لإحراز تقدم في مجال إزالة الكربون سيكون له نتائج عكسية، ومحاولة احتكار توريدات لقاحات "كوفيد-19" المستقبلية من خلال منع التوزيع العادل لتلك اللقاحات لا يمكن أن ينهي التهديد الصحي والاقتصادي الذي تشكله تلك الجائحة، علما أن اختيار الحمائية والتخندق على المستوى الوطني يعني تطبيق صيغ الأمس على مشاكل اليوم.

وإن العولمة أدت الى بروز إحباطات ومخاوف مشروعة لا يمكن التخفيف منها ببساطة من خلال استذكار الفوائد الضخمة التي جلبتها العولمة، ولكن عوضا عن محاولة التراجع عن العولمة يجب علينا الانخراط في محاولة متزنة لبناء عولمة أفضل.

* خافيير سولانا

* الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والأمين العام السابق لحلف الناتو ووزير خارجية إسبانيا، وزميل متميز في معهد بروكنغز.

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top