بينما تقترب الولايات المتحدة من الانتخابات الرئاسية الأكثر أهمية وإثارة للجدال منذ أمد بعيد، يدور قدر كبير من الأحاديث حول التصويت عن طريق البريد، ويرى بعض المراقبين أن هذا الخيار ضروري لضمان تمكين الجميع من الوصول إلى الاقتراع وسط جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، وخصوصا العاملين من أبناء الطبقة الكادحة والأقليات، الذين كانت معدلات الإصابة بعدوى "كوفيد-19" بينهم مرتفعة بشكل غير متناسب، لكن آخرين، بما في ذلك الرئيس دونالد ترامب، يعارضون بصخب فكرة الاقتراع بالبريد، مشيرين إلى خطر التزوير المزعوم.الواقع أن حجتهم زائفة وليست جديدة حقا، فعلى مدار القرون الستة الأخيرة، سعى الراغبون في الحد من حق الانتخاب إلى تحقيق أهدافهم من خلال الاستشهاد بالحاجة إلى الحفاظ على "نزاهة" النظام الانتخابي.
لنتأمل هنا إنكلترا في أوائل القرن الخامس عشر، ففي ذلك الوقت أرسلت كل مقاطعة إنكليزية اثنين من "فرسان المقاطعة" (أعضاء البرلمان) كممثلين له، وبسبب عدم وجود قانون رسمي يحكم كيفية اختيار هؤلاء الفرسان (وهو لقب شرفي إلى حد كبير)، كان تنظيم الانتخابات يقع على عاتق عمدة كل مقاطعة.بحكم العرف كان لدى كل الذكور الأحرار من سكان المقاطعة الحق في المشاركة، في حين كان النظام يستبعد النساء، ولا شك أن بعض هذه الانتخابات كانت خشنة وغير منضبطة، لكنها سمحت بقدر أكبر كثيرا من المشاركة مقارنة بما أصبحت عليه الحال بعد فترة وجيزة.في عام 1429 تقدم أعضاء مجلس العموم بالتماس إلى الملك هنري السادس للموافقة على قانون جديد كان المقصود منه ظاهريا ضمان سير انتخابات المقاطعات لعضوية البرلمان سلميا، وجاء في الالتماس أنه في غياب هذا القانون الجديد "سترتفع في الأرجح معدلات جرائم القتل، وأعمال الشغب، والاعتداءات، والانقسامات"، وبعبارة أخرى، زعم أنصار القانون أن نزاهة العملية الانتخابية كانت في خطر.لكن الطريقة التي اقترحها البرلمانيون لمعالجة المشكلة المتصورة نَـمَّـت عن دوافعهم الحقيقية، فدعوا إلى أن يقتصر حق الانتخاب في المقاطعات على أولئك الذين يمتلكون أراضي لا يقل عائدها السنوي عن 40 "شلنا"، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.كان السبب الجذري وراء المشكلة يكمن في "الأعداد الكبيرة المفرطة من الناس" الذين كانوا يشاركون في الانتخابات، وتحولت قاعدة الأربعين شلنا إلى قانون في إنكلترا في عام 1430، ولم يلغ هذا القانون إلى أن أقر البرلمان قانون الإصلاح العظيم لعام 1832.بذلك القانون توصل البرلمان أخيرا إلى فكرة أن قاعدة الأربعين شلنا كانت تشكل مفارقة تاريخية، ولكن بعد ذلك، تسبب تطور جديد في القصة في استحداث هيئة التصويت التي نعتبرها مقدسة اليوم، ولم يدع بعض أعضاء البرلمان إلى توسيع حق التصويت فقط، بل لجعل الاقتراع لانتخابات مجلس العموم سريا، فمنذ زمن سحيق كانت انتخابات المقاطعات تجري علنا، مما مكن الناس، الذين يملكون السبل، من ترهيب الآخرين أو رشوتهم حسب التعليمات.لكن أربعين سنة أخرى مرت قبل أن يتبنى البرلمان أخيرا قانون الاقتراع لعام 1872، فقد كان أحد الأسباب الرئيسة وراء التأخير في إجراء الاقتراع السري أن المعارضين زعموا أنه سيعرض نزاهة العملية الانتخابية للخطر، وكان بعض أعضاء البرلمان اقترحوا الاقتراع السري في عام 1830، لكن آخرين زعموا آنذاك أن مثل هذا الإجراء من شأنه أن يؤدي إلى "شكوك أبدية ونفاق"، وفي عام 1862 كرر معارض آخر للاقتراع السري الكلام ذاته تقريبا، زاعما أنه "بدلا من كونه أداة ضابطة للرشوة، سيعمل على تسهيلها من خلال منع اكتشافها في العديد من الحالات".من المؤسف أن مثل هذه الحجج يتردد صداها اليوم في الولايات المتحدة، التي دخلت حقبة جديدة من القيود على التصويت والتي تذكرنا بماضيها من حرمان الأميركيين من أصل إفريقي من حق التصويت، ففي السنوات الأخيرة أقرت 25 ولاية أميركية قوانين تزيد صعوبة التصويت، مثل طلب بطاقة هوية تحمل صورة شخصية أو حتى إثبات الجنسية. كما عملت بعض الولايات على الحد من الإقبال على التصويت من خلال تقليل عدد مراكز الاقتراع.يتمثل التأثير الواضح لهذه التدابير في إمالة أرضية الملعب ضد ذوي الدخل المنخفض والأقليات، وكما كانت الحال في إنكلترا قبل 600 عام، فإن الهدف المعلن ليس أكثر من ستار دخان مريح.في الجدال الدائر في الولايات المتحدة حول التصويت عن طريق البريد يستحضر معارضو المشاركة الانتخابية الواسعة النطاق مرة أخرى شبح الاحتيال والفساد لتحقيق أهداف حزبية ضيقة، وبدون الاستشهاد بأي دليل يزعمون أن نظام التصويت الجديد هذا عُـرضة على نحو أو آخر لمخالفات أكبر من التصويت الشخصي التقليدي.لكن التخوف الحقيقي من جانب ترامب وغيره يتلخص في أن التصويت عن طريق البريد من شأنه أن يعزز الإقبال وأن يساعد المرشحين الديمقراطيين، ورغم أنه ليس من المؤكد أن مثل هذا التأثير قد يكون واردا في الولايات التي تسمح به بالفعل، فلا نملك الآن إلا الأمل في أن يواصل دعاة حق الاقتراع الموسع سلسلة انتصاراتهم في نهاية المطاف.* ديفيد ستاسافاج* عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب "انحدار وصعود الديمقراطية: تاريخ عالمي من العصور القديمة إلى الوقت الحاضر".«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
ترامب وكذبة صناديق الاقتراع القديمة
27-07-2020