قد تكون من الخصال المستترة، لكنها في الوقت نفسه، هي واحدة من أهم الخصال التي يفكّر فيها اليافعون من البنات والأولاد في أي مجتمع من المجتمعات، وأعني بذلك القدوة!حينما يكون المفكر والعالم والمخترع والمدرِّس والإمام والأديب والفنان والموظف المخلص، والأم والأب هم القدوة، فذاك هو الخير، والخير العميم، وحين يصبح كل من يكسب مالاً بطريقة سريعة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، هو القدوة، فالويل لجيل يتربى على حلاوة كسب المال وإنفاقه وكيفما اتفق!
كتبت فيما مضى أن المواطن في أي بلد كان، وبفعل العولمة، بات يحيا منشطراً بين عالمين، بين بيئته وعالمه المحلي وبين اتصاله ووصله بما هو عالمي، وبذا فإنه ينتمي إلى محليته بقدر ما ينتمي إلى "العالمي"، وأطلقت على هذا الإنسان تعبير "الإنسان المحعالمي" وكما هو المواطن الرقمي، فإني أظن أن كلاً منا عاد مواطناً "محعالمياً" بدرجة أو بأخرى.إن التبشير بالعولمة جاء متزامناً مع موجة رفض كبيرة من القوميين في مختلف أنحاء العالم، وإنهم في حينه، أي قبل ما يزيد على العقدين من الزمن، واجهوا العولمة برفض كامل لرغبتها في قولبة البشر سواء في تفكيرهم أو سلوكهم أو ملبسهم أو مأكلهم. ظلت موجة الرفض حاضرة وقوية فترة ما، وما لبثت أن هدأت وتلاشت شيئاً فشيئاً، لتُخلي المجال تماماً لحضور وفعل العولمة، خصوصاً أن ذلك جاء بشبكة الإنترنت، ومواقعها ومحركات بحثها، ثم وصول الهاتف الذكي، وأخيراً تطورت الأمور وحلّت بيننا شبكات التواصل الاجتماعي، لتتربع العولمة في بيت كل منا، وفي لسان كل منا، وفي نظر كل منا، وفي ساعات يومه وحتى في أحلامه!خلافاً لأجيالنا التي ترعرعت في طفولتها في حضن الأسرة والبيت وصداقات ذوي القربى والحي السكني والمدرسة، فإن أكثر من جيل فتّح عينيه، وترعرع على عالم الكمبيوتر والآي باد ومواقع الإنترنت وأخيراً الهاتف الذكي وشبكات التواصل الاجتماعي، أنا اقتنيت تلفوني الأول في مرحلتي الجامعية، وابنتي الكبرى ربما في الرابع الثانوي أي بعمر الستة عشر عاماً، وابنتي الثانية في الثاني المتوسط، أي بعمر الثانية عشرة، وحفيدتي الأولى في سن الثامنة... والآن، طفل في السنة الأولى أو الثانية لا يسكت إذا بكى إلا إذا قدمت له الأم/ الخادمة تلفونها مفتوحاً على موقع لأغاني الأطفال أو تمثيلياتهم، ولا يحتاج القول إلى شرح أن جميع ذلك يأتي باللغة الإنكليزية/ الأميركية، وبفكر أميركي، وبتراث أميركي وبلهجة ولا أقول لغة أميركية.تربت أجيالنا الحالية كما أجيال العالم على رتم العولمة، وأكلات العولمة، وملابس العولمة، وأبطال وبطلات أفلام العولمة، وصارت وجبة "الماكدونالدز-McDonald’s" أطيب وأشهى من أي وجبة تعدها الأم في البيت، وصارت ملاحقة الـ "سناب تشات-snapchat" أهم من أي كتاب أو محاضرة، ومما صار أيضاً أن التصوير مع أي من نجوم الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي حلم لا يعادله حلم، وحتى لو اضطر الولد أو البنت إلى دفع مصروف أسبوع مقابل الصورة. لكن ما لفت نظري، وأنا هنا أتكلم عن الكويت، وبعد فضيحة "غسل الأموال" التي أشير فيها إلى تورّط بعض الفاشينيستات، ومعهم بعض الرجال العاملين في الحقل نفسه، فإني سعدت حين سمعت شباباً يافعين، وللمرة الأولى، يغيّرون من نظرتهم لهؤلاء، نساءً ورجالاً. ولحظتها قلت: رب ضارة نافعة. فما أحوج أبناءنا إلى قدوة مختلفة، قدوة تعمل في أي من مجالات الحياة الفكرية والعلمية والثقافية والطيبة والإنسانية والخيّرة. فمهم جداً أن يتربى الجيل وأمامه نماذج بشرية مشرِّفة تعمل في أي من مجالات الحياة، يقتدي بها، ويحاول تقليدها، ويسعى في تحصيله الدراسي والحياتي ليصل إلى ما وصلت إليه.• أحبتي وأصدقائي، كما نقول بلهجتنا الكويتية الحبيبة: عيدكم مبارك وأيامكم سعيدة، وعساكم من العايدين والفايزين!
مقالات
لا أريد أن أكون فاشينيستا!
30-07-2020