بدأت تتشكل لدي قناعة أن الشعب الكويتي يعاني من رُهاب أو "فوبيا" الجمال بشكل كبير، فنحن نرى القبح جمالاً ونسارع في تدمير كل ما هو جميل وإزالته، من اقتلاع لأشجار معمرة إلى تشذيب أقرب ما يكون إلى تشويه الحشائش المختلفة واعتبار أوراقها الثمينة "أوساخاً"! كذلك يستنكر الكثيرون صوت المؤذن الجميل– الذي أصبح من النوادر- واعتباره إطالة و"تفلسفاً" لا داعي لهما، فالأذن اعتادت النشاز.ولا يدرك الأغلبية هنا أهمية الفراغ المساحي في البيوت ووجود متنفس عمراني كالحوش والحدائق والشرفات، فهم يرون هذه الجماليات مجرد مساحات غير مستغلة، فينتهي بنا المطاف ببيوت إسمنتية صماء أشبه بالصندوق العملاق. هذا ناهيك عن الهدم الممنهج لصروح قبعت في ذاكرة الشعب واستبدالها بمبانٍ عملاقة غير صالحة للاستخدام الآدمي.
للأسف، لا يقتصر كره الطبيعة والجمال على الأشجار فقط، بل يمتد ليشمل الطيور والقطط وجميع أشكال الحياة الحيوانية، والتي يتباهى الكثير بخوفه المرضي منها، وكأن ذلك مدعاة للفخر، والأسوأ من ذلك هو الإساءة لها وصيدها وتعذيبها، فبصورة شبه شهرية تصلنا أخبار شخص مريض يقوم بقتل وتعذيب الحيوانات، ناهيك عن حالات الإساءة اليومية الكثيرة لهذه الأرواح المسكينة على الحسابات المهتمة بإنقاذها. إن المجتمعات المتقدمة هي القادرة على التواصل مع الطبيعة وتخضيرها وكذلك استئناس مختلف الحيوانات والإحسان إليها، وفي ذلك أمثلة كثيرة كالغرب وإنسانيتهم الرائعة في معاملة الحيوان والطبيعة.كذلك فإن فكرتنا عن جمال الهندام تعتمد كثيراً على المبالغة في اختيار القطع الباهظة الثمن لمجرد اسمها فحسب، لذا فإن حس التفرد في الملبس يكاد يكون شبه معدوم، وذلك بسبب الخوف من الرفض والانتقاد في ثقافة القطيع، فأصبحت "الماركات" كالزي الموحد!وكما شوه مقص "الزراع" تلك الأشجار والشجيرات، فقد شوه مشرط الجراح الجمال الطبيعي للعديد من النساء هنا، فطمس الجمال المتميز لكل منهن كي يصبحن نسخاً كربونية بلا هوية، ومن المدهش حقاً رؤية ذلك الخط المتوازي الخفي بين المرأة والطبيعة، فتلوث الطبيعة بالمواد الكيميائية وموت تنوع الحياة فيها وكذلك حشوها بالبلاستيك ومحاولات "ترويضها" قسراً تكاد لا تختلف البتة عن حال المرأة الحديثة، وتتحدث د.كلاريسا بينكولا إستيس عن ذلك بتعمق في كتابها "نساء يجرين مع الذئاب".بالطبع فإن هذا الرهاب من الجمال ورؤيته كشيء غير ضروري لم يأتِ من عدم، فهو نتاج عقود طويلة من سياسات متشددة حرّمت الفنون وأبسط أشكال الفرحة من رسم موسيقى وغناء ورقص، وربط تلك المعارف الإنسانية الراقية بالانحلال والفساد الأخلاقي بكل أسف، وذلك على الرغم من ارتباط الجمال مباشرة بالقيم الأخلاقية العليا، فالجمال وجه للحق وانعكاس للصدق والتناغم، بل حتى الصحة من منطلق بيولوجي. كذلك فقد تكون فوبيا الجمال تلك انعكاساً دفيناً لكره الذات والنظر إليها من منظور استشراقي، فنحن ما زلنا غير قادرين على التعاطي مع بيئتنا الصحراوية بشكل سلس وفعال، أو تخضيرها كأضعف الإيمان، وما زلنا نختزل الجمال البشري بمقاييس الجمال الاستهلاكي التي نستوردها مباشرة من الإعلام الأميركي ذي القبضة الحديدية على عقول مشاهديه.باختصار، فإن وأد الفنون والثقافة لمدة طويلة سبب ضموراً في الذائقة الجمالية لدى الفرد الكويتي، وانفصاله عن الطبيعة وانغماسه بالثقافة الاستهلاكية أدى إلى تشويهها، فما زال الطريق طويلاً.
مقالات - اضافات
«فوبيا» الجمال!
31-07-2020