الأرشيف الوطني يحتاج إلى «الرقمنة الإنسانية»
في الواقع قرأت مقال الأستاذ حمزة عليان في جريدة "الجريدة" المنشور 9 يوليو 2020 بعنوان "ألا تستحق أرشيفا وطنيا جامعا"، بخصوص فكرة الأرشيف الوطني، وكانت الحقيقة في غاية الأهمية نظراً لالتقائها بأمر لطالما شغل ذهني وهو تقديم مفهوم الرقمنة الإنسانية Digital Humanities للكويت كما هي الحال اليوم في أبو ظبي والدوحة.أنا في الأصل حاصل على بكالوريوس هندسة من جامعة عين شمس، بعدها رحلت لدراسة تاريخ الأديان وتخصصت في المسيحية المبكرة، حيث حصلت على الماجستير والدكتوراه من كامبريدج ولندن تباعاً، ونظراً لأن خلفيتي تجمع بين العلوم الإنسانية والهندسة، فإني الآن أعمل باحثاً في قسم الرقمنة الإنسانية بمعهد أبحاث العلوم الحيوية (Swiss Institute of Bioinformatics) في جامعة لوزان بسويسرا.والحقيقة تربطني بالكويت علاقة خاصة، فأنا من مواليد ذلك البلد الهادئ الجميل، فبعد حرب أكتوبر 1973، انتقل والدي إلى هناك للعمل كمهندس مدني في عدة شركات حتى استقرت به الحال مديراً لمشروعات الشركة الأحمدية للمقاولات، وظل الحال كذلك حتى انتقل إلى جوار ربه في عام 1997، وعليه فقد وُلِدت وترعرعت في رحابها؛ عشت أيامها الحلوة في طفولتي وذقت مع أهلها مصاعب الغزو، ولم تترك في صدري إلا الذكرى الطيبة.
من هنا جاء اهتمامي بالكويت تحديداً، ولعل رؤيتكم الثاقبة التي عبرتم عنها في مقالكم يجب أن تلقى الصدى المكافئ لأهميتها، وهنا أود أن أشير إلى نقطة تبدو لي مهمة: كيف يمكن أن نقدم وسيلة فعالة ومتقدمة لمفهوم الرقمنة على النسق الأوروبي الذي لم يتم تفعيله بعد في أرشيف الدوحة وأبوظبي.فالدولتان المذكورتان قد أغدقتا على جهاتٍ في المملكة المتحدة (تحديداً المكتبة البريطانية وجامعة إكستر) لعملية رقمنة مباشرة Scanning archived materials، ولكن عملية الـ"سكانينج" هذه لا تسمن ولا تغني من جوع، واليوم تتم الرقمنة بشكل أكثر ذكاءً يتيح للمعلومة أن تبحث عن الباحث من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي. فلو رفعت نسخة من مخطوطة في هيئة صورة، فإن محتواها سيظل حبيس عدة غرف لها أسوار عالية يستحيل على الباحثين أن يعرفوا أنها موجودة أو يفهموها:1- صيغة الصورة لا تسمح بتفريغ المادة داخلها، فهي مجرد صورة لا نص (TEXT).2- حتى إن تم تفريغ النص في هيئة (TEXT)، فكيف لباحث أن يعرف إن كانت المعلومات داخله مفيدة أم لا وهو أمامه آلاف النصوص المكتوبة بخط اليد ولا يعرف ما في داخلها.لكن إذا تم تفريغ المخطوطة ورقمنتها بصيغة تستطيع تمييز وتصنيف المعلومات الموجودة داخلها، فإن ذلك سيتيح للباحث أن يتم إعلامه بالتواريخ، والأسماء، والمعلومات الأساسية... إلخ، داخل تلك النصوص إذا تمت رقمنتها بشكل "ذكي"، وهو ما يسمى اليوم بأسلوب الـTEI =text encoding initiative، فالرقمنة الإنسانية في العالم اليوم تفرغ المعلومات بهذا الأسلوب، ثم تقوم "السيرفرات" بنشر المادة التي تم تحليلها داخل النص أوتوماتيكياً وتوزيعها على سيرفرات العالم مثل: Github لكي يتحول النص الأصم الموجود في صورة إلى مادة ذكية تم تحليلها وتفريغ محتواها وتوزيعها على الباحثين بحسب اهتماماتهم.في الشرق الأوسط بدأت بعض مراكز البحث في لبنان وأبو ظبي التقاط الخيط، ولكنها في مرحلة مبكرة ولم يتم تفعيلها بعد على نطاق واسع، لذلك أتمنى أن يتم عمل مشروع أرشفة ذكي لا يقف على عرض صور رسائل بمادة حبيسة مبهمة إنما تحليلها بشكل ذكي ونشرها عالمياً، وهذا ما أقوم به اليوم على مخطوطات بيزنطية قديمة، وأتمنى أن أرى تطبيقه في الكويت.هذا باختصار شديد ما يدور في خلدي وأود أن أشارككم فيه إن شاء الله، وكانت هناك فرصة للاستفاضة.* أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة لوزان بسويسرا