في 19 يوليو الجاري، علّق «الاتحاد الوطني الكردستاني» مشاركته في البرلمان الكردي العراقي، مما أدّى إلى تعطيله فعلياً. وتعتبر هذه الانتكاسة أحدث مثال على محاولات القادة المحليّين تسجيل نقاط سياسيّة في وقت يرزح إقليم كردستان العراق تحت الصدمات المتتالية للأزمة الماليّة، ووباء فيروس كورونا، والغارات العسكريّة من إيران وتركيا. وكان إقليم كردستان العراق شريكاً موثوقاً به في تعزيز سياسة الولايات المتّحدة في العراق ومحاربة الإرهاب على مدى ثلاثة عقود، ولا تزال قوّات البيشمركة التابعة له جهة فاعلة في الحملة لإحباط عودة تنظيم «الدولة الإسلامية».
ومع ذلك، فإن الخلاف العميق الحالي بين الفصائل السياسيّة الرئيسية في المنطقة قلّل من أهمّية إقليم كردستان العراق كشريك لواشنطن، وحوّل العلاقات الثنائيّة إلى تعاملية على نحو متزايد، وقلّص النفوذ الكردي في بغداد.
عاصفة كاملة من الأزمات
انتشر وباء فيروس كورونا «كوفيد- 19» عبر «كردستان العراق»، وسُجّلت أكثر من 11.000 إصابة و419 حالة وفاة مؤكّدة. واندلعت حملات مقاطعة متفرّقة من الأطباء والشرطة، ويمكن أن تتفاقم الشكاوى العامّة المتزايدة لتصبح احتجاجات واسعة النطاق.وتثقّل الحالة الماليّة البائسة لإقليم كردستان العراق بشدّة كاهل الرد على هذه المشكلات. فبسبب سياسات المحسوبيّة والقطاع الخاص غير المتطوّر، يجري إنفاق 80 في المئة من الميزانية التشغيليّة السنويّة لإقليم كردستان البالغة 950 مليون دولار على 1.25 مليون شخص يشكّلون القوّة العاملة المتضخّمة في القطاع العام أو يتقاضون معاشات تقاعديّة. ففي أبريل، لم يتدفّق سوى 30 مليون دولار من عائدات النفط إلى خزائن إقليم كردستان العراق، وفقاً لخطاب لرئيس الوزراء مسرور بارزاني أُذيع عبر التلفزيون. ونتيجةً لذلك، صرفت حكومة «الإقليم» ثلاث دورات فقط من مدفوعات الرواتب هذا العام، منها اثنتان رواتب متأخّرة تعود لعام 2019. ومما زاد الطين بلّة انهيار صفقة الميزانيّة مع بغداد أخيراً، مما وضع حدّاً للتحويلات الشهريّة المنتظمة إلى إقليم كردستان العراق وأدّى إلى وقف الاستثمار بشكل أساسي في البنية التحتيّة والخدمات المحليّة.وكأن هذه الأزمات لم تكن كافية، فقد اختارت تركيا وإيران هذا الوقت لشنّ حملات عسكريّة داخل إقليم كردستان العراق. وابتداءً من منتصف يونيو، شنت القوّات التركية غارات جوية على مواقع «حزب العمال الكردستاني»، وهو جماعة تركيّة مُدرجة على قائمة الإرهاب الأميركية، بينما استهدفت طهران «الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني» المعارض.استجابة معيبة لإقليم كردستان
في السابق، كانت مثل هذه العاصفة المثالية قد عملت على تركيز عقول القادة السياسيّين في كردستان وإظهار رد موحَّد، ومع ذلك، لجأ «الاتحاد الوطني الكردستاني» ومنافسه الرئيسي «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، حتّى الآن إلى تبادل اللوم الذي لن يؤدي سوى إلى نتائج عكسيّة. ومرّت ثمانية أشهر طويلة لم يلتق خلالها قادتهم، مفضّلين انتقاد بعضهم بعضاً خلال البرامج الحواريّة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. كما أعاد المجلس المحلي في السليمانية بزعامة «الاتحاد الوطني الكردستاني» إحياء اقتراح قديم لتطبيق اللامركزيّة، الذي يعتبره «الحزب الديمقراطي الكردستاني» خدعة لتفكيك إقليم كردستان العراق. وفي أبريل، تواجهت قوّات البيشمركة المتنافسة التابعة لهما في منطقة «زيني وارتي»، مما أعاد إحياء المخاوف التي ابتلي بها الأكراد العراقيّين من خلال قتل الأخ لأخيه كما حدث في منتصف التسعينيات، وما نتج عن ذلك من انخراط الجيوش الإقليميّة في حربهم الأهليّة، وتقسيم أراضيهم في النهاية إلى منطقتَين ذات نفوذ حزبي عائلي.والأسوأ من كلّ ذلك قيام الحزبين بتسييس الرد على الوباء، فقد ألقت بعض شخصيّات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» اللوم في ارتفاع حالات المرض المحليّة على قرار «الاتحاد الوطني الكردستاني» بفتح حدوده مع إيران، متّهمة الأخير بمحاولة حرمان الحكومة برئاسة بارزاني من القضاء على الجائحة. في المقابل، اتّهم «الاتحاد الوطني الكردستاني» «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بتخزين الإمدادات الطبيّة ومعدّات الاختبار لمؤّيديه، ويزيد الانشقاق داخل كلّ حزب من الشعور بالفوضى السياسيّة، فعندما جرى تخفيض رواتب العاملين في القطاع العام في يونيو كجزء من إجراءات التقشّف المالي، شهدت صفوف «الاتحاد الوطني الكردستاني» انقساماً حول ما إذا كانت ستدعم هذه الخطوة أو ترفضها. ويبرز صراع على السلطة داخل عائلة بارزاني في «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، إذ يتّهم فريق رئيس الوزراء الجديد سلفه وابن عمه نيجيرفان بارزاني الذي هو حالياً رئيس إقليم كردستان العراق بسوء إدارة قطاع النفط والثروة في المنطقة، وتشكّل الحزبية الضرر الأكبر في صفوف البيشمركة، حيث يمكن للولاءات الشخصيّة لقادة الوحدات أن تولّد أمراء الحرب.فمنذ بعض الوقت، تحوّل ميزان القوى السياسيّة لصالح «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يسيطر على صناعة النفط ولديه خمسة وأربعون عضواً في برلمان إقليم كردستان العراق مقارنةً بواحد وعشرين عضواً لـ «الاتحاد الوطني الكردستاني». لكنّ هذا التحوّل لم يكن يعني الكثير على أرض الواقع لأنّ أراضي المنطقة وقوّات الأمن وتدفّقات الإيرادات لا تزال مقسّمة إلى منطقتَي نفوذ غير رسميّتَين. ويريد «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن يجعل «الاتحاد الوطني الكردستاني» شريكاً صغيراً، لكنّ هذا الأخير يصرّ على البقاء متساوياً، إضافة إلى ذلك، لا يظهر الطرفان الكثير من التسامح إزاء المعارضة السياسيّة، ويتخذان إجراءات قانونيّة وأمنيّة ضد الأصوات المعارضة على حساب المعايير الديمقراطيّة والإصلاحات. وعلى عكس السيطرة التشريعيّة الكاملة التي تمتّعا بها منذ عقود، يشكّل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» حالياً 60 في المئة فقط من برلمان إقليم كردستان العراق، ومع ذلك استخدما نفوذهما العسكري والاقتصادي الغالب لإرغام الأطراف الأخرى واستمالتها. كما يرفض الطرفان تسليم السيطرة على قوّات الأمن التابعة لهما إلى حكومة إقليم كردستان العراق، وهو موقف إشكالي جداً دفع الميليشيات في أجزاء أخرى من العراق إلى الاستشهاد بالبيشمركة كنموذج لتحزّبهم الخاص واستهجانهم للسلطة الوطنيّة.التداعيات على السياسة الأميركية
تسبّب تركيز واشنطن المشدد على مكافحة الإرهاب منذ عام 2001 في إهدارها فرص لرعاية إقليم كردستان العراق كشريك موثوق به على المدى الطويل، وبصرف النظر عن الإقطاعِيّيْن الحزبيَّين اللذين يتوليان مهام الحوكمة في أربيل، ساهم المسؤولون الأميركيّون بشكل مباشر في إضفاء الطابع المؤسّسي على الأمن القائم على الحزب من خلال إنشاء برامج تدريب وتجهيز مستقلة لبيشمركة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و»الاتحاد الوطني الكردستاني». ومن وجهة نظر واشنطن، كانت هذه المقاربة ضرورية نظراً للاحتياجات العاجلة لمحاربة تنظيمَي «القاعدة» و»الدولة الإسلامية»، إلّا أنّ بعض العواقب البعيدة المدى كانت ضارة.وأساء قادة إقليم كردستان العراق أيضاً تفسير الدعم العسكري الأميركي في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» باعتباره إيماءة سياسيّة للمضي قدماً في استفتائهم الكارثي على الاستقلال في عام 2017، وفي أعقاب ذلك، تردّد أنّ بعض المسؤولين الأكراد أصيبوا بخيبة أمل من واشنطن بسبب عدم اتخاذها أي خطوة بينما كان الجنرال الإيراني الراحل قاسم سليماني يقود قوّات الجيش العراقي والميليشيات ضدّ وحدات البيشمركة في كركوك ونينوى. كما بدأوا في إظهار ميل سياسي خفي تجاه طهران.على سبيل المثال، على الرغم من عملهما تجاه أهداف مضادة بشأن العديد من القضايا، فإن كلّاً من «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» تعاون مع «كتلة الفتح» النيابية القريبة من إيران خلال عمليّة تشكيل الحكومة التي أعقبت انتخابات مجلس النواب لعام 2018، وفي وقت سابق من هذا العام، كانا من بين الأحزاب الأخيرة التي سحبت دعمها لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي قبل أن يضطر إلى الاستقالة بسبب الاحتجاجات الجماهيريّة. وعندما دعت الفصائل الموالية لإيران إلى عقد جلسة لمجلس النواب في 5 يناير بهدف إخراج القوّات الأميركيّة من العراق، اقتنع المشرّعون الأكراد بمقاطعة الجلسة بدلاً من الوقوف بحزم إلى جانب واشنطن والإدلاء بصوت معارض. (ويتساءل المرء كيف شعر أولئك المشرعين بعد ذلك بثلاثة أيام، عندما أطلقت إيران صواريخ على قاعدة عسكرية في أربيل كجزء من انتقامها على قيام الولايات المتحدة بالقتل المستهدف لسليماني).وتتمثّل الخطوة الأولى في معالجة عدد من هذه المشاكل في فرض شروط على التمويل الذي تقدّمه الولايات المتّحدة للبيشمركة. وتدفع واشنطن حالياً 17 مليون دولار شهرياً لتغطية الرواتب الرسميّة لقوات البيشمركة، وهو أمر بالغ الأهميّة للحفاظ على الضغط على تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي المرحلة القادمة، يجب على المسؤولين الأميركيّين أن يطالبوا إقليم كردستان العراق بتنفيذ إصلاحات أمنيّة لكي يستمرّوا في الحصول على هذه الأموال، بهدف فصل البيشمركة عن سيطرة أي حزب ووضعها في نهاية المطاف تحت السيطرة المدنيّة لإقليم كردستان العراق.ومع ذلك، لا يكمن الخطر الأكبر في النزاع بين البيشمركة، بل في الأزمة الاقتصاديّة. وعلى هذا الصعيد، يجب على الولايات المتّحدة استخدام عمليّة الحوار الاستراتيجي الجديد لتوفير الدعم التقني والمالي لبغداد وأربيل، مع الضغط عليهما بشكل مكثّف للتوصّل إلى شروط بشأن الطاقة وتقاسم العائدات.وتحتاج السلطات الكرديّة والوطنيّة أيضاً إلى التنسيق بشكل أوثق بشأن التعامل مع وباء «كوفيد- 19»، ومنع الغارات التركيّة والإيرانيّة عبر الحدود، والقيام بعمليّات استخباراتيّة وأمنيّة ضدّ عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في الأراضي المحرّرة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على أربيل أن تمنح الدعم السياسي لجهود رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لكبح جماح الميليشيات.لكن بعض «الحب القاسي» أمر واجب أيضاً. يجب على واشنطن أن تُخبر قادة إقليم كردستان العراق بشكل خاص بل بحزم أنّها بحاجة إلى مواجهة تحديات الحوكمة التي تواجهها. ويشبه الوضع السياسي الحالي بشكل مثير للقلق ذلك الذي كان عليه في عام 2014، أي مباشرة قبل اندلاع الأزمة الوطنيّة التي أطلقها تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومع ذلك، لن تأتي هذه المرّة خطّة إنقاذ دوليّة على النحو الذي يرغب فيه إقليم كردستان العراق بالنظر إلى النطاق العالمي للوباء وتداعياته الاقتصاديّة ذات الصلة. أخيراً، مع تزايد احتماليّة احتجاجات الجمهور الكردي، يجب على قادة إقليم كردستان العراق الانتباه إلى التحذير الذي أطلقته احتجاجات العراق والاضطرابات السياسيّة الناتجة عنها. ولا يزال بإمكان واشنطن الاستفادة من علاقات متينة دامت ثلاثة عقود من خلال دفع شريكها نحو الأمن، والحوكمة، والإصلاحات الاقتصاديّة، لكن لا يمكن إنقاذ إقليم كردستان العراق من محنته الحالية إلّا من خلال وجود قيادة كردية موحدة.*مايكل نايتس