روسيا لن تختفي، ولذلك من الضروري تطوير أسلوب معدل لعلاقات واشنطن معها، وبدلاً من النظر اليها كعدو أو صديق حان الوقت للنظر اليها كثالث جارة للولايات المتحدة. وكانت دوائر المشاركة أو المواجهة قد خيمت منذ زمن طويل على العلاقات الأميركية- الروسية وبلغت ذروتها في القرن العشرين خلال الحرب الباردة التي استمرت أكثر من أربعة عقود، ومع بداية القرن الحالي لم تعد الولايات المتحدة تنظر الى روسيا في صورة الخصم المهدد وفي واقع الحال لم يعد هناك من يفكر في العلاقة مع روسيا في الأوساط السياسية الأميركية ولم ترجع موسكو الى الأضواء الا بعد غزوها لأوكرانيا في عام 2014، وتدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016.
وقد صعدت روسيا في الآونة الأخيرة الى مصاف الدول العظمى- مثل الصين- ولا يمر تعليق صحافي في الولايات المتحدة من دون أن يتضمن اشارة الى دور روسيا على الصعيد العالمي، وعلى الرغم من ذلك تظل روسيا في نظر الكثير من الأميركيين الدولة البعيدة ولكنها تتدخل حيث لا يحق لها ذلك، وفي الوقت نفسه لا تعتبر قريبة بشكل يشكل خطراً، ويقال لنا إن العلاقات الأميركية- الروسية ستصبح أفضل اذا انسحبت موسكو من أوروبا والشرق الأوسط وخرجت من المشهد السياسي بعد تاريخها من الخطوات المناوئة للغرب.المعروف أن الدول المتجاورة يعرف بعضها بعضا، وتستفيد من تلك المعرفة، وهذا يعني بدوره السعي الى جعل السمة نقطة التقاء ترتقي الى مستوى الشراكة واستبعاد التوتر، ويتعين أن تقوم استراتيجية الولايات المتحدة من منظور «الجار الثالث» نحو روسيا على عدة أعمدة، ويتطلب العمود الأول معرفة أفضل وأعمق بروسيا وتاريخها والأشكال والمفاهيم التي رسمت العلاقات الأميركية- الروسية عبر التاريخ الطويل. والمهم هنا هو مفهوم النزاع والتعاون الذي يعود الى حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي والذي يشتمل أيضاً على دروس رئيسة يستفاد منها في خطوات المستقبل.ويتطلب العمود الثاني توافر فهم عميق لما تريده كل دولة جارة أو ما يحق لها أن تسعى اليه، ثم إن السؤال الذي يطرح في هذا الصدد هو ما هي المصالح القومية المعرضة للخطر في سياق العلاقات الأميركية- الروسية؟ والجواب هو أنه يندر أن كانت تلك المصالح في وضع مثالي كما أنها كانت بشكل دائم خاضعة لترجمة النظام الدولي بصورة فريدة، وتعرضت العلاقات بين البلدين الى مصاعب دبلوماسية أفرزت ما يمكن وصفها بعراقيل الثقافات السياسية في الولايات المتحدة وروسيا، وحتى الحدث التاريخي الفردي- الحرب العالمية الثانية- على سبيل المثال يمكن ترجمته بصورة مختلفة جداً في البلدين، اضافة الى أن عدة قرون من التاريخ دفعت كل واحدة من الدولتين الى التطلع الى طموحات مماثلة ولكنها لم تكن تهدف الى تحقيق النظام العالمي من خلال الطريقة ذاتها.وفي نهاية المطاف، يتعين أن توازن الاستراتيجية الأميركية- الروسية بين المرونة ازاء تدخلات موسكو وقبولها في صورة دولة جارة تسهم في معالجة قضايا العالم المعقدة، ويمكن القول ان روسيا التي تتمتع بقوة عسكرية ضخمة ومرعبة تستطيع السعي الى تحقيق أهدافها ومصالحها بشكل متقن في المستقبل وهذا واقع يتعين على العالم أن يأخذه في الحسبان، ومن أجل أن تتمكن السياسة الخارجية الأميركية من النجاح بصورة عامة تعتبر العلاقة الفاعلة مع روسيا صفة مهمة وضرورية لأنها تتكامل مع المصالح الأميركية العالمية في المقام الأول.
تاريخ النزاعات
خلال المئة عام الماضية اندلعت طائفة من النزاعات بين الولايات المتحدة وروسيا، ومع ازدياد شكوك الأميركيين ازاء الاستبداد القيصري في القرن التاسع عشر تحولت الآمال نحو حدوث حركات مبكرة للتحرر في روسيا بما في ذلك ثورة عام 1905 ثم الثورة البلشفية في شهر نوفمبر من عام 1917، ولكن هذه الأخيرة كانت متعارضة بصورة صارخة مع القيم الأميركية بسبب ما اشتملت عليه من حرب أهلية وطبقية وقمع ومجاعة، ولم تعترف الولايات المتحدة بالحكومة السوفياتية الا في عام 1933، وبعد ستة أعوام توترت العلاقات الثنائية بين واشنطن وموسكو بسبب التحالف بين النازيين والسوفيات ولكن لم تصل الى درجة الحرب.وقد أفضى تحالف الضرورة خلال السنوات الأخيرة من الحرب الى انتصار مشترك في عام 1945 والذي تحول في وقت لاحق الى نزاع جديد، وقد ضاعف من الخلافات العقائدية الموجودة بين الولايات المتحدة وروسيا بروز التحديات الكبيرة المتعلقة بنظرة البلدين الى أوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وكانت البداية عبر ألمانيا المحتلة والمقسمة، وتصاعدت مشاعر عدم الثقة بسرعة وتوضح ذلك بجلاء في عدم ارتياح كل طرف لنفوذ الطرف الآخر كما أن المأزق في أوروبا تفاقم بعد أن أجرى الاتحاد السوفياتي تجربة ذرية في عام 1949 التي أثارت موجة حامية من سباق التسلح شملت الرؤوس الحربية والطائرات والصواريخ.وكان أن قررت موسكو المضي بقوة لمنع أي توسع جديد لحلف شمال الأطلسي ونفوذه في منطقة الشرق الأوسط، ومع تراجع الاتصالات التجارية والدبلوماسية والانسانية لم تشعر موسكو أن لديها ما تخسره في اطار العلاقات الأميركية- الروسية ومن ذلك المنطلق جاء قرارها بالتدخل في السياسة الداخلية الأميركية من أجل زيادة الاحتكاك الاجتماعي وتعميق حضورها على الساحة الداخلية في الولايات المتحدة.وفي الوقت نفسه، أسفر ضعف الاقتصاد الروسي عن عجز موسكو عن خوض مغامرات جديدة جريئة وقوية دولية في المستقبل، بما في ذلك أي عرض رئيسي للقوة العسكرية في خارج حدودها. وهكذا لم تحمل السياسة الروسية ما يثير قلق الولايات المتحدة من حدوث كارثة من نوع ما كما كانت التحديات من روسيا محدودة ويمكن معالجتها شريطة أن يتم فهمها في المقام الأول، وكان القيام بذلك يتطلب المزيد من الاستثمارات في الخبرة الروسية وبقدر يفوق كل ما قامت الولايات المتحدة به منذ نهاية الحرب الباردة. ومع اتخاذ واشنطن لوضعية النزاع المتصاعد مع روسيا- أولاً في نطاق الدفاع عن النظام الدولي التحرري ثم تحت راية منافسة القوة العظمى تعرض أكثر من جيل كامل من الأميركيين لفقدان الفرصة لدراسة روسيا.العلاقات الثنائية الشائكة
العلاقة الأميركية- الروسية التي يتحدث فيها أحد الطرفين لغة واحدة ويتحدث الطرف الآخر بلغتين ليست في مصلحة الولايات المتحدة على الاطلاق، ويمكن لهذا النقص في التحضير لمواجهة ذلك الوضع أن ينعكس على العلاقات الثنائية بين واشنطن وموسكو اضافة الى ان تحقيق تحسن في الخبرة الأكاديمية الأميركية سوف يحتاج الى أكثر من عقد من الزمن.وكما كان الحال خلال الحرب الباردة يتعين على الاستراتيجية الأميركية أن تسعى الى رسم صورة الولايات المتحدة كما وضعتها الجارة الروسية، كما يتعين استعادة موارد الدبلوماسية التي طرحت من العزلة المتبادلة طوال سنين عديدة بعيداً عن النظرة القاتمة نحو الولايات المتحدة التي يتشاطرها معظم الروس والتي تنبع من دعاية الكرملين مع العلم أن الشباب الروس يتطلعون الى السفر الى الولايات المتحدة أو الى التحاور الافتراضي مع الأميركيين. ويمكن لهذه الاتصالات أن تتركز على الشراكة في ميادين المصلحة المشتركة الواضحة بما في ذلك تغير المناخ والمنطقة القطبية الشمالية واستكشاف الفضاء والتطلع الى رخاء وأمن في الحياة اليومية. في غضون ذلك يتعين على الأميركيين عدم اعادة صورة روسيا الى ما كانت عليه دولة وراء الستار الحديدي ويجب أن تعمل واشنطن على التحول النفساني وجعل روسيا الجارة الثالثة.تسعى موسكو بقوة الى تعزيز تحالفها مع الصين مع تأكيد حرصها على حماية مصالحها العالمية وهو ما يجعل روسيا محورية في منظور السياسة الخارجية الأميركية من أميركا اللاتينية الى الشرق الأوسط ومن أوروبا الى شرق آسيا، وتملك روسيا القدرة المحتملة من أجل زيادة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وذلك إما من خلال مساعدة بكين أو عبر استغلال الصدامات عندما تحدث. وفي سياق آخر تستطيع روسيا المساعدة على احتواء أو تعقيد صعود الصين الى آفاق الهيمنة الاقليمية في آسيا وحتى الهيمنة العالمية في نهاية المطاف. من جهة أخرى، سيكون في وسع الولايات المتحدة وهي تتصور روسيا دولة جارة ثالثة أن تستفيد من تجربة واشنطن مع جارتيها المكسيك وكندا كما أن الضرورة تقضي بتفادي النزاع مع موسكو والعمل على تحويلها الى دولة سيكون في وسع الولايات المتحدة التعايش معها في المستقبل في مختلف الميادين.● ماثيو روجانسكي