شرع الله وشرع البشر (3)
"الحاكمية" أيديولوجية تشكل المرتكز الأساسي لكل الطروحات الزاعمة أن مجتمعاتنا غير محكومة بالشريعة، بل بالنظم والقوانين الوضعية المستوردة من الغرب، وذلك بعد سقوط نظام الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك 1924.وكما أسلفنا، فإن أصل أيديولوجية الحاكمية يرجع إلى الذين سموا أنفسهم "الموحدين" وعرفوا بـ"الخوارج" كونهم خرجوا بالسلاح على الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، رافعين شعار "لا حكم إلا لله"، ثم أحياها ونظر لها وبلورها الداعية الباكستاني (أبو الأعلى المودودي) نهاية الأربعينيات في الهند، وتبناها فيما بعد الكاتب والأديب المصري "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق" أيديولوجية ومنهاجاً تنظيمياً انقلابياً على المجتمع المصري "الجاهلي" ونظامه السياسي المحكوم بـ"الطاغوت" ودفع حياته ثمناً لذلك 1966.خلاصة أيديولوجية الحاكمية أن البشر لا مدخل لهم في التشريع، عبر المجالس النيابية، فذلك حق لله تعالى وحده: "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً"، فلا يملك مخلوق ولا برلمان ولا الشعب كله حق التشريع والتقنين، لأن ذلك عدوان على الحاكمية الإلهية.
وقد بلغ غلو الحاكميين، قولهم أن المسلمين أوصياء على الجنس البشري كله، يحملون تكليفاً بتحريره من طواغيت الأرض لفرض حكومة إسلامية عالمية! وهذا أشبه بهذيان ينفس به الضعفاء عن عجزهم طبقاً للدكتور عمارة.تفكيك الحاكمية:1- أول من فكك هذه النظرية، هو الإمام علي، حينما قال: كلمة حق يراد بها باطل، أما الحق فإن أصل الشعار الآية "إن الحكم إلا لله"، وأما الباطل فثلاثة: استقطاع الآية من سياقها، إساءة فهمها، وتوظيفها كشعار سياسي، ثم إن حاكمية الله تعالى مطلقة في التشريع وغيره للبشر والحياة والكون وما فيه، لكنها لا تلغي حاكمية البشر في تنظيم وتدبير أمور مجتمعاتهم، وهل ينفذ المولى تعالى حكمه إلا من خلال البشر؟ 2- النصوص الشرعية محدودة، والمسكوت عن حكمها من المستجدات كل يوم، أكثر بكثير، وتتطلب اجتهاداً جديداً، والاجتهاد ما هو إلا تشريع بشري.3- الخطاب الشرعي ظني الدلالة، يقبل تعددية الأفهام والآراء بحسب اختلاف الناس في سياقاتهم المجتمعية والتاريخية، وهذا الفهم والرأي عمل بشري.4- الرسول عليه الصلاة والسلام أذن للصحابة بالتشريع في وقائع كثيرة، منها: حديث بريدة "إذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، فلا تُنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فيهم أَمْ لَا"، وقال لهم "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وأرسل قضاة يحكمون، والقضاء في المستجدات نوع من التشريع.5- التشريعات العربية المعاصرة مستمدة من الشريعة، ويكفينا قول الفقيه الدستوري الكبير د. أحمد أبوالمجد رحمه الله: "القوانين الفرنسية التي استمدت منها التشريعات العربية، مأخوذة في معظمها من الفقه المالكي"، يؤكده فضيلة الشيخ د. خالد المذكور، رئيس لجنة استكمال الشريعة بالكويت "نحن درسناها في اللجنة واكتشفنا أن القوانين الفرنسية معظمها من الفقه الإسلامي، ولم نعدل من القانون المدني الكويتي إلا 40 مادة من 1080مادة، والبقية لا تتعارض مع الشريعة". 6- الشريعة عند معظم دعاة تطبيق الشريعة والحاكمية حدود تطبق (الرجم، القطع، الجلد) ومحرمات تحظر( موسيقى، أغان، تصوير، خروج المرأة واختلاطها... إلخ)، وأوامر تفرض بالقوة عبر هيئة رسمية، يتخذونها معياراً وحيداً للحكم على إسلامية الدولة وتشريعاتها الوضعية، وهذا فهم ضيق للشريعة لأن العقوبات والمحرمات لا تشكل إلا جانباً واحداً من جوانب الشريعة.هؤلاء يتجاهلون (لأهداف سياسية وأيديولوجية) الجوانب الأخرى الأساسية لأحكام الشريعة: إقامة العدل الاجتماعي والقانوني ونظام الشورى وحماية حقوق وكرامة الإنسان وتوفير الحريات العامة وإشاعة قيم التسامح والمودة، وقبول الآخر، ومحاربة الظلم والفساد، وتحقيق التنمية والإنتاج، والنهوض بالأوطان، والإسهام في الركب الحضاري للبشرية.أخيراً: مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى أيديولوجية الحاكمية، لأنها مجتمعات مسلمة بطبيعتها، تعاملاً وثقافة وهوية وعبادة وشعائر وتشريعات، وأيديولوجية الحاكمية لن تضيف إسلاماً إلى إسلاميتها، كما أننا لا نملك تفويضا إلهياً بفرضها على البشرية.* كاتب قطري