يسلط العدد 182 من مجلة "عالم الفكر"، وهي دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الضوء على مناهج النقد الأدبي، مستعرضاً موضوعات فكرية وأدبية أخرى.يستهل د. محمد الديهاجي بحثه المعنون "مناهج النقد الأدبي... ملاحظات ومآخذ" بالقول إن المناهج الأدبية هي من القضايا الشائكة التي كانت ولا تزال تحظى باهتمام كبير من أهل الدراية في مجال البحث، مشيرا إلى أن هذا الاهتمام يعبر عن مدى القيمة الحقيقية المتزايدة التي أصبحت تعنى بها هذه القضية في مجال البحث العلمي بمختلف جوانبه ومستوياته.
وأضاف الديهاجي: "ولعل هذا ما يفسر بلا شك العدد الهائل من الدراسات والاطروحات، التي أعدت في سبيل الوقوف عند جوهر القضية، بيد ان المتمعن في هذا الكم الهائل من الدراسات لا يجد ما يثلج الصدر ويشفي الغليل؛ اذ غاب عن أصحابها الوعي المنهجي، فكانوا بعيدين عن عمق الاشكالية المطروحة في تشعباتها وأبعادها المختلفة".وهو يرى ان الغرب تعاملوا مع النقد الأدبي المعاصر بطريقة إمبريقية مبالغ فيها احيانا، في اختبار فروض دراساته في افق موضوعية مثالية، قد يكون ذلك بسبب طبيعة النص الادبي وخصوصيته عند الغرب، لكن بالنسبة الينا نحن العرب فإن الظاهرة الادبية عندنا قد وسمت منذ البداية بخصوصيات واضحة، ذلك ان تميزها عن نظيرتها الغربية راجع في الاساس الى البيئة التي احتضنتها".وفي حديث عن نشأة النقد المعاصر، قال ان النقد المعاصر نشأ عند الغرب في احضان المنهج العلمي/ التجريبي، ذلك أن أصحاب هذا المنهج يرون أن كل الظواهر الأدبية يمكن ان تخضع للقوانين العلمية، وبذلك فإن الفروض التي توجه كل دارس للأدب ينبغي لها ان توضع تحت محك الاختبار، واذا تحقق الفرض وأكدته المشاهدات يدخل بذلك مرحلة القانون.
نظريات فلسفية
ويستطرد الديهاجي في الحديث عن تأثيرات النصف الثاني من القرين الـ20، وقال: "لقد طرحت مسألة المناهج النقدية في النقد الأدبي في النصف الثاني من القرن العشرين مجموعة من الاسئلة على النص الأدبي، في محاولة منها لجعله يتكلم وينطق بما يخفيه ويكنزه، مطاردة بذلك جل مكوناته البنائية وكذا مدوناته الخفية، ولما كانت مرجعيات هذه الأطر هي في أصولها تعود إلى نظريات فلسفية متباينة ومتناقضة أحيانا فإن حركية الاشتغال في النقد الغربي قد تميزت بنوع من الصراع فيما بينها.ويلفت إلى أن من مهام هذه المساحة البحثية الوقوف عند أهم المفاصل النقدية الغربية الحديثة، من حيث أطرها المنهاجية بما يثبت ان مسالة التعدد المنهاجي هذه التي أفرزت قصورا واضحا قد جعلت النقاد الجدد يفترضون حوارا ممكنا فيما بين هذه المناهج، في اطار ما أطلق عليه المناهج وتكامل المعارف، تفاديا لكل المشكلات التي واجهت النقاد والدارسين والباحثين عند تطبيقهم هذه المناهج على النصوص الأدبية التي على كل حال لها طبيعتها الخاصة، والتي تختلف من أثر أدبي الى آخر.ويوضح ضمن هذا السياق، أن الفكرة ليست وليدة اللحظة، بل تعود اساسا الى فرانسيس بيكون وكلود برنارد في القرن السابع عشر، والمنهج يؤدي الى كشف الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة، التي تهمين على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى غاية معينة.إنه وسيلة او طريقة لفهم الوجود وبلوغ الحقيقة الغائبة من خلال آليات دقيقة في أقل وقت ممكن وبأقل الخسائر الممكنة. إن المنهج وفق الدكتورة شريفة كلاع: "عملية فكرية منظمة أو أسلوب أو طريق منظم دقيق وهادف يسلكه الباحث المتميز بالموهبة والمعرفة والقدرة على الابداع، مستهدفا ايجاد حلول لمشكلات او ظاهرة بحثية معينة ويلتزم الباحث بمجموعة من القواعد والضوابط مستعينا بالادوات البحثية الاكثر ملاءمة لبحثه وإيضاح العلاقات والعلل السببية في اطار تحليل المشاهدات والملاحظات واجراء المقارنات المنطقية للوصول الى نتائج ثم اختبار مدى صحتها. وعقب ذلك بلورة هذه النتائج في اطار التسلسل والتأطير النظري المتسق في صورة قواعد مبرهن على صحتها تقود إلى الحل المنتظر.حقيقة النص
وعن طريقة تعامل الباحث الغربي مع النص، قال إن المنهج العلمي هو فن تنضيد الافكار وتنسيقها وتنظيمها بآليات دقيقة ومضبوطة من أجل الكشف عن حقيقة الكينونة/ النص ونحن نجهلها، او البرهنة عليها وتبيانها للاخرين ونحن نعرفها، وأغلب الظن في مجال الادب ان تغير نظرة الدارسين والباحثين الى مفهوم الادب في ذاته، والى النص الادبي باعتباره كينونة تضاعف من وجودها بفعل آثامها الملغومة (الآثام بما هي خرق وانزياح)، هي التي جعلتهم يعيدون النظر في طرائق تعاملهم مع النص الادبي، منذ أواخر القرن التاسع عشر. لقد كنت الرغبة في تلك الفترة ملحة وضرورية من اجل تخليص النقد الادبي من نزعته الميتافيزيقية وأحكامه التذوقية، الامر الذي دفع الدارسين خصوصا في بحر القرن العشرين الى الاستعانة بالعلوم الانسانية.وأضاف: "وعلى أثر ذلك، انقسمت نظرة الدارسين إلى الأثر الأدبي وتعددت بتعدد المشارب الفكرية والفلسفية والأيديولوجية، فهناك من نظر الى النص الادبي بوصفه نتاجا مرجعيا اجتماعيا، وهناك من اعتبره نتاجا وإفرازا لعوامل نفسية معقدة. وفي المقابل نجد تصورا آخر اختزل الاثر الادبي كله في بنية مغلقة تنتظم في سلسلة من العلاقات والقوانين المضبوطة، مؤشرا بذلك إلى فكرة موت المؤلف، فضلا على ان هناك من اعتبر النص مجرد سلعة تعرض على قارئ متسهلك وتحتكم لشروط السوق ما يفرض علينا النظر اليه في تداوله واستهلاكه.وأشار الديهاجي إلى أنه سيلجأ إلى ثلاثة مناهج في بحثه الأول المنهج البنيوي (سوسيولوجيا الأدب) والمنهج الاجتماعي (البنيوية التكوينية) ومنهج نظرية التلقي، مبيناً أن البنيوية بوصفها اتجاها ظهر وتطور وانتشر بشكل لافت في النصف الاول من القرن العشرين قد امتدت الى مختلف الحقول والمجالات البحثية المعرفية والعلوم الانسانية كالتحليل النفسي والسوسيولوجيا والنقد الادبي وغيرها من المعارف. وسوسيولوجيا الادب تعتبر ان النص الادبي نشاط تخييلي بالدرجة الاولى محله النفس البشرية بكل ما تنطوي عليه من احاسيس ومشاعر وتفاعلات، وهو نص زئبقي يصعب على المرء الامساك به بصفة نهائية ومطلقة. فلا عجب ان تتضارب الاراء حوله وتتعدد طرق مقارباته وتتباين النظريات والمناهج بخصوصه.أحادية النظر والقصور المنهجي
يقول الديهاجي إن مسألة القصور المنهجي عائدة إلى أحادية النظر التي استحكمت في معالجة الظاهرة الأدبية بصرامة مبالغ فيها احيانا، ربما اقتضتها ظروف المرحلة، علما ان الظاهرة الادبية هي ظاهرة معقدة ومتشابكة؛ اذ لا ينبغي النظر اليها في بعدها التجزيئي الذي من شأنه أن يؤدي إلى قراءة نقدية ناقصة، مبيناً أن النص الأدبي يتشكل من نسقين كبيرين وأساسيين؛ نسق نصي جمالي يعكس اختبارات صاحبه الجمالية والفنية بما يحدد لنا وعي الكاتب وموقفه من فعل الكتابة بوصفها كينونة ثانية له، ونسق ثان مضمر بالخبرة تتآلف فيه مجموعة من الأنساق الثقافية وجواراتها التي تحدد موقف الكاتب من العالم والاشياء بوعي انطولوجي مكين، فإن النظر السليم الى النص لا يستقيم الا باستحضار هذين النسقين. ويستطرد الديهاجي بأن النص الأدبي انطلاقا من هذا المنظور وجهان لعملة واحدة لا يمكن البتة الفصل بينهما، وان البحث في مدونة النقد الأدبي يثبت إن كانت هناك بعض المناهج التي حاولت النظر إلى النص الأدبي في ازدواجية، فتنظر للأسف إلى النص الادبي باعتباره بنيتين منفصلتين، والحال انهما متوالجتان مثلما يلج الليل في النهار والنهار في الليل. ويخلص الديهاجي إلى القول انه يمكن القول ان جل المناهج النقدية التي أثبتت جدارتها في مرحلة من المراحل كالنقد البنيوي والاجتماعي والنفسي ونظرية التلقي، والتي انتهى معظمها إلى الباب المسدود كما يرى البعض، قد وجدت نفسها سجينة القراءة التجزيئية الاحادية للنص الادبي، التي كانت سببا في علتها هذه.