سلطت الأرباح الفصلية للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، في الربع الأول من العام الحالي، والتي تضاعفت بواقع 4.3 أضعاف عن الربع الأول من العام الماضي لتصل إلى 7.3 مليارات دولار بنسبة أداء مقابل الأصول تبلغ 6.08 في المئة- سلطت الضوء على قوة الأداء في قطاعات المؤسسة الاستثمارية، التي تعرضت سمعتها خلال السنوات الماضية لهزة عنيفة بسبب القضايا الجنائية، التي طالت مديرها السابق فهد الرجعان.وصاحَب قوةَ الأداء الاستثماري في المؤسسة، لأول مرة، ارتفاعٌ بدرجة لافتة لمستوى الشفافية في الإفصاح للرأي العام والعملاء عن العديد من مكونات المحفظة الاستثمارية، خصوصاً من ناحية التوزيع النوعي، والتي تنوعت ما بين 60 في المئة على شكل أسهم وسندات و40 في المئة لقطاعات العقار والبنية التحتية والاستثمارات غير السائلة طويلة الأمد، مع التوجه الصريح نحو زيادة نسبة هذا النوعية من الاستثمارات في المستقبل على حساب حصة الأسهم والسندات، فضلا عن إعلان المؤسسة توجهاتها لخفض نسبة السيولة النقدية بالمحفظة من 41 في المئة عام 2016 إلى 4 في المئة في مارس المقبل، وهي البالغة حالياً 11.5 في المئة حسب بيانات 30 يونيو 2020، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المؤسسة لم تعرض حتى الآن المخاطر المترتبة على الخفض القياسي بنسبة السيولة النقدية في المحفظة الاستثمارية، بالتوازي مع حالات عدم اليقين التي تسود الأسواق والاقتصاديات العالمية، لا سيما في ظل تداعيات أزمة كورونا.
نقص في الإفصاح
ورغم نقص إفصاح "التأمينات" عن نتائج أعمالها الاستثمارية للتعمق في التحليل المالي فيما يتعلق بكيفية تحقيق الفصلية القياسية ومدى إمكانية تكرارها في البيانات المقبلة لبقية العام، أو حتى معرفة درجة جودتها إن كانت ناتجة عن تصفية أصول واستردادات معلقة لحصص أو صناديق معلقة منذ أعوام، أو إن كانت نتيجة تدفقات استثمارية منتظمة، أو حتى معرفة درجة التحوط فيها إن كانت نتيجة استثمارات ذات مخاطر عالية أم لا... رغم ذلك كله فإن ما أعلنته المؤسسة من تفاصيل استثمارية، بالتزامن أيضاً مع إنشاء إدارة الحوكمة والالتزام في عام 2017، والعمل على ضمان استقلالية وحيادية إدارتي التدقيق الداخلي والمخاطر، إضافة نوعية لمهنية "التأمينات"، التي طالها الكثير من الأذى مع قضايا مديرها السابق فهد الرجعان.التكرار ورفع المستوى
وعليه فإن معيار تقييم أرباح استثمارات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، على قوتها، يجب أن يرتبط بجودتها من زاوية مدى قدرة المؤسسة على تكرار مثل هذه الأرباح في الأرباع الثلاثة المتبقية من العام، فضلاً عن السنوات القادمة، أما تقييم سياسات الحوكمة والشفافية الجديدة فهي ملازمة لمدى اتساقها مع القدر المقبول من من هذه المعايير، بالمقارنة مع صناديق التقاعد العالمية، إذ إن المقارنة في الكفاءة لا ترتبط فقط بالأداء المالي، بل أيضاً بالعمل المؤسسي، بكل ما يرتبط به من شفافية وحوكمة وسياسات تحوط ومخاطر، فضلاً عن التفاصيل الدقيقة، وليس فقط العامة، للتوزيع الجغرافي والنوعي للاستثمارات لتعرض على الجمهور، وهم عملاء المؤسسة، مع تأكيد أن مؤسسة التأمينات إن كانت حكومية فإنها تدير أموال المشتركين من موظفي الدولة والمتقاعدين من أصحاب المعاشات، وهذا يفرض عليها تحدي رفع مستوى الشفافية لمستويات أعلى.تعميم التجربة
إذا كان هناك ثمة درس أو فائدة فيما قامت به "التأمينات" على صعيد الشفافية، فهو أنه يعطي مثالاً في تعميم هذه الخطوة على مؤسسات الدولة الأخرى؛ كمؤسسة البترول الكويتية فيما يتعلق بعمر النفط والثروة الطبيعية بالكويت واستثمارات المؤسسة حول العالم، والهيئة العامة للاستثمار فيما يتعلق بحجم صندوق احتياطي الاجيال القادمة وأدائه، بالمقارنة مع صناديق الثروة السيادية الاخرى، وبنك الكويت المركزي بالكشف عن أوزان سلة العملات التي تشكل الدينار الكويتي، ومجلس الأمة فيما يعرف بـ "الحالة المالية للدولة" التي تناقش في جلسة سرية، وهي أقرب إلى عرض بيان حسابي للأصول والاحتياطيات، وليست مناقشة مستفيضة للمالية العامة وكفاءة سياساتها وجودة خططها... وهذه المعلومات التي تصنفها الدولة كـ"سرية"، أمام الراي العام، لا تتناسب أبدا مع توجه العالم نحو سياسات الشفافية والإفصاح والحوكمة، وهي من جانب آخر أكثر أهمية لأموال وثروة المواطنين في حاضرهم ومستقبلهم، وأقل حقوقهم معرفة حجمها وكيفية إدارتها والتحديات والمخاطر التي تحيط بها.فوائد الشفافية والحوكمة
يشير التاريخ غير البعيد إلى أننا في الكويت أحوج ما نكون لتطبيق سياسات الشفافية والحوكمة، فلدينا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ذكريات أليمة من تجاوزات وسرقات وخسائر طالت الصندوق السيادي، وذكريات أخرى أقرب لاختلاسات أموال التأمينات الاجتماعية، والتربح غير المشروع فيها، فضلاً عن أن رفع مستوى الشفافية يقدم للرأي العام والمختصين فرصة تقييم السياسات وإمكانية إصلاحها وتطويرها وترشيد أدائها، فمن المتاح اليوم تقييم أداء صندوق الاحتياطي العام، الذي تؤول سيولته اليوم الى الصفر، لأنه غير محكوم بالسرية التي تقيد تقييم أوضاع صندوق احتياطي الاجيال، فضلاً عن أن ضعف الشفافية في الصناديق السيادية يفتح الباب لحملات دولية تؤدي لفرض عقوبات وضرائب وقيود أكثر، في سبيل رفع مستوى الشفافية في الأموال المستثمرة لدى شركاتها، مع الأخذ بعين الاعتبار ان معرفة عمر النفط وسهولة وكفاءة إنتاجه لاشك أن لها أثرا مهما من حق المجتمع الاطلاع عليه وتقييمه، بل إن إعلان سلة مكونات الدينار يعطي فرصة لتقييم أوضاع تتعلق بقوة العملة والآثار التضخمية التي تطالها في السوق.مطلوب من الادارة الحكومية، اليوم، أن تأخذ نموذج سياسات الحوكمة والشفافية التي أطلقتها مؤسسة التأمينات الاجتماعية لتطورها وتعممها على مختلف مؤسسات الدولة، التي تدير أموالا عامة او خاصة، نيابة عن الغير... فالمعلومات والاستثمارات السيادية والضخمة لا يجب أن تظل حبيسة السرية بلا إطلاع للمختصين والرأي العام عليها، فيحدث غالبا ما يلوثها أو يفسدها.