يبدو أنه لم يفت الأوان من أجل اصلاح العلاقة المتأزمة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية والتي نجمت عن الهجمات المتكررة من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب على العلاقة العابرة للأطلسي.جدير بالذكر أنه بعد ثلاثة أعوام ونصف العام من السلوك العدائي من قبل واشنطن تقف الولايات المتحدة وأوروبا في الوقت الراهن عند حافة انفصال استراتيجي وشيك.
وفي حال فوز الرئيس ترامب بالانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر نوفمبر فسوف تستمر حملات ادارته الحادة على كافة المؤسسات التي أبقت المجتمع العابر للأطلسي مزدهراً وينعم بالسلام طوال الـ 75 عاماً الماضية وسوف يفضي ذلك السلوك الى عواقب وذيول مدمرة وطويلة الأجل على جانبي الأطلسي.كان الضرر الذي شهدته الولاية الأولى للرئيس ترامب حاداً ومؤثراً وقد أحدث هزة في صميم المبادئ الديمقراطية في المجتمع العابر للأطلسي من خلال الهجوم على الصحافة الحرة واستخدام قوى حفظ النظام والوكالات الدبلوماسية والاستخبارية لأغراض وغايات حزبية اضافة الى اساءة استخدام البيت الأبيض للمنفعة الشخصية.وقد تمكن الرئيس ترامب عبر هذه التصرفات من تقويض مبادئ الدفاع الجماعي عبر اثارة الشكوك في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها والنظر في مسألة انسحاب واشنطن من حلف شمال الأطلسي. واضافة الى ذلك فقد أدار ترامب ظهره لأهم شريك لأميركا عندما وصف الاتحاد الأوروبي بـ "العدو" وشن حرباً تجارية ضد ذلك الاتحاد.وقال الرئيس السابق للمجلس الأوروبي دونالد تاسك في هذا الصدد "مع وجود أصدقاء من هذا النوع من قد يكون في حاجة الى أعداء"؟جدير بالذكر أن الهوة عبر الأطلسي لم تكن في أي فترة سابقة أكثر اتساعا مما هي عليه الآن حول قضايا رئيسية مثل التجارة والمناخ والحد من التسلح والديمقراطية وحكم القانون، ولم تكن الخلافات التي برزت حول تلك القضايا نزاعات تكتيكية بسيطة وغير مهمة بل كانت استراتيجية عميقة وقد عكست في الوقت نفسه التباين الواضح في القيم والأهداف بين الجانبين.
تهديد الأمن القومي الأميركي
ولعل ما هو أكثر اثارة للقلق أن تلك الخلافات المتزايدة الاتساع تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي – وبكل بساطة نقول إن الولايات المتحدة من دون دعم حلفائها وشركائها في أوروبا ليست قادرة على التقدم بصورة فعالة في تحقيق مصالحها الجيوسياسية، وتفهم الدول الديكتاتورية مثل روسيا والصين هذا الوضع بصورة تامة ولذلك فهي تسعى بشكل نشيط من أجل تعميق الانقسامات التي يسببها الرئيس ترامب.ولكن الجانب المهم على أي حال هو أن الوقت لم يفت بعد من أجل اصلاح العلاقات، وبغية القيام بمثل تلك الخطوة يتعين على الرئاسة الأميركية المقبلة العودة بصورة عاجلة وملحة الى الرؤية الاستراتيجية المشتركة مع شركائها في أوروبا والبدء بالتعاون في خمس مناطق رئيسية تحتل الأولوية بين الجانبين.العلاقات الاقتصادية
يتعين في المقام الأول اصلاح العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، واضافة الى السعي لانهاء حرب الرئيس ترامب التجارية يمكن القيام بتلك الخطوة من خلال ازالة أو الغاء التعرفات العابرة للأطلسي والاستثمار المشترك مع الشركاء الأوروبيين في البنى التحتية المرنة والمستدامة وضمان سلاسل القيمة المشتركة.جدير بالذكر أن الغاء التعرفات فقط يمكن أن يفضي الى فوائد ضخمة من خلال البضائع والخدمات التي تعبر الأطلسي في كل يوم والتي تقدر قيمتها بأكثر من 3.8 مليارات دولار – كما أن التعاون في ميدان الاستثمار في البنى التحتية عن طريق توسيع وتعزيز مبادرة البحور الثلاثة – على سبيل المثال – ضمن مقاييس محاربة الفساد سوف يطلق النمو ويشكل البديل المطلوب لخطة الحزام والطريق الصينية وبذلك يساعد هذا الجهد الدول الأوروبية الأصغر حجماً على تفادي فخ الديون الصينية واستحواذ بكين على الأصول الاستراتيجية الأوروبية.التنمية المستدامة
وسوف يساعد العمل معاً أيضاً على اعادة تحديد مواقع مناطق الانتاج التي يحتمل حدوث تراجع فيها على صعيد الأخطار الجيوسياسية في الولايات المتحدة وأوروبا وتقوية جوانب المرونة في سلاسل القيم العالمية مع ارساء المزيد من قواعد التنمية المستدامة.محاربة تغير المناخ
وثانيا، يتعين على الولايات المتحدة اعادة التزامها بمحاربة تغير المناخ كما أن الاعلان عن هدف مشترك للتخلص من الكربون بحلول عام 2050 سوف يفتح الباب أمام شراكة متجددة مع أوروبا يمكن أن تفضي الى تمويل التنمية والاستثمارات في تقنية فعالية الطاقة والمصادر المتجددة.ومن شأن مثل هذه الخطوات اعطاء واشنطن المزيد من التأثير في سعيها الى توجيه درجة أكبر من الاستثمارات في أمن الطاقة في الدول الأوروبية – بما في ذلك البنى التحتية الحيوية مثل خطوط وصل الأنابيب واستيراد محطات الغاز الطبيعي المسال – بغية ربط "جزر الطاقة الأوروبية" مع بقية شبكة طاقة القارة وبالتالي خفض تعرضها للضغط الروسي واعتمادها على مصادر الطاقة القذرة.الدفاع الجماعي
وثالثاً، سوف يتعين على الولايات المتحدة وبصورة عاجلة اعادة تأكيد صدقيتها في المادة 5 من حلف شمال الأطلسي التي تضمن التزامها بالدفاع الجماعي، واضافة الى ذلك يتعين على واشنطن القيام بدور نشيط وفعال من أجل مساعدة حلف شمال الأطلسي على تحديث قدراته ومواجهة التهديدات المتمثلة في الصين وروسيا.ويتعين عليها أيضاً تركيز اهتمامها على المناطق المهملة مثل المنطقة القطبية والبحر الأسود حيث تنشط روسيا بشكل متزايد، كما ينبغي على الولايات المتحدة تصدر شراكة جديدة بين حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي من أجل مواجهة التهديدات التي لا ترقى الى مستوى النزاع المسلح مثل سوء نشر المعلومات والتمويل السري وعمليات "الاجراءات النشيطة" التي تعتبر بصورة متزايدة الطريقة المفضلة لدى الدول المستبدة لتقويض الديمقراطيات من الداخل.ورابعاً، يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا اعادة طرح نوع من الهدف المشترك في مواجهة عدوان القوى الاستبدادية وكان الرئيس ترامب دمر كل فرصة ممكنة لحدوث مثل تلك الخطوة خلال فترة رئاسته عن طريق التودد الى روسيا في اطار الميزان التجاري الثنائي فيما تجاهل ممارسات بكين القسرية الاقتصادية كما ضغط على ايران من دون أن يضمن دعماً دولياً لخطوته.وبالنسبة الى روسيا يتعين اتباع أسلوب أطلسي أكثر تماسكاً من أجل تحقيق توازن أفضل على صعيد السلاح والدفاع وتكلفة أعلى يتكبدها الكرملين نتيجة انتهاكاته للسيادة مع حوار أكثر قوة حول الحد من التسلح وخفض الأخطار وادارة الأزمات. أما في ما يتعلق ببكين فيتعين أن تركز الاستراتيجية المشتركة على مواجهة سبل الاكراه التقنية والاقتصادية الصينية غير العادلة. وفي هذا الصدد سوف يكون في وسع الولايات المتحدة وأوروبا تطوير كونسورتيوم ديمقراطي وفقاً لما اقترحه البعض من قادة أوروبا مع الارتباط بقوة أكبر بآلية استعراض الاستثمارات واتخاذ موقف مشترك ازاء ممارسات الصين التجارية المجحفة. وعلى الولايات المتحدة في تعاملها مع ايران الانضمام من جديد الى خطة العمل الشاملة بعد ضمان عودة طهران الى الالتزام بتعهداتها بموجب الاتفاقية النووية.وأخيراً، يتعين على طرفي الأطلسي الالتزام من جديد بالدفاع عن القيم الديمقراطية ورفض ممارسات وسائل الاعلام المستقلة المغرضة والهادفة الى تفكيك التوازنات القائمة حالياً وتسييس قوى انفاذ القانون والوكالات القضائية وأجهزة الاستخبارات. واضافة الى ذلك توجد حاجة الى تحقيق مزيد من التعاون في مكافحة الفساد عن طريق جهود منسقة ضد غسل الأموال وخاصة بعد صدور أنظمة غسل الأموال في الاتحاد الأوروبي والتزام جانبي الأطلسي بحظر الشركات المجهولة التي تعمل على شكل واجهة لتلك العمليات.من جهة اخرى يتعين الضغط على الدول التي تنتهك بصورة متكررة القوانين الديمقراطية كي تغير موقفها أو أن تواجه امكانية تجميدها خارج أنشطة حلف شمال الأطلسي أو صناديق الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت ذاته، يتعين ترك الباب مفتوحاً أمام الدول الطامحة الى الانضمام الى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي التي تلبي معايير العضوية المطلوبة.استمرار العداء الأميركي
يهدد استمرار العداء الأميركي لأوروبا بتقويض أفضل انجاز جيوسياسي تحقق خلال الأعوام الـ 75 الماضية وهو قيام دول مترابطة وملتزمة بالدفاع عن السلام والحرية والازدهار، واذا أدرنا ظهرنا لهذا الانجاز فإننا نعزز دور دول الاستبداد للمضي أكثر في تقويض القوانين الديمقراطية كما أن العلاقات العابرة للأطلسي أكثر أهمية من التظاهر الزائف الذي ينادي "بأميركا أولاً".*مايكل كاربنتر