أقيمت محاضرة بعنوان "تراسل الفنون: من المنمنمة حتى اللوحة التشكيلية في رسم الأدب العربي"، ضمن الفعاليات المصاحبة لمعرض الكتاب الافتراضي "E- Raf"، قدمتها الكاتبة هدى الشوا.

في البداية طرحت الشوا مجموعة من التساؤلات، وقالت: "لماذا يعود بعض الفنانين المعاصرين في زمننا هذا إلى كتب التراث، وإلى مصادر ومؤلفات قديمة يستوحون منها خيالا لرسم لوحة، لتأليف مقطوعة موسيقية، لكتابة مسرحية، أو لكتابة سيناريو فيلم؟ كيف يتحاور الفنان في زمننا هذا مع الموروث الأدبي والفني؟ بالتقليد أم بالتجديد؟ هل ثمة تراسل بين الفنون؛ بين قصيدة من شعر المعلقات مثلا، واللوحة التشكيلية؟ في هذا العرض أنظر إلى التجربتين لفنانين يمثلان ما يسمى بتراسل الفنون، أي التلاقي والمحاورة بين أشكال الفنون المختلفة، لنسأل: كيف يرسم الأدب العربي؟".

Ad

تحية إلى عنترة

وأعطت نموذجا لجدارية بعنوان "تحية إلى عنترة"، رسمتها الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج، وبطل العمل الفارس عنترة بن شداد، صاحب المعلقة المشهورة التي ألهمت الفنانة فاطمة الولوج إلى عالم هذا الشاعر الفارس، بمعرض عنونته "كُرّ وأنت حر"، وهي المفردة التي قالها له والده بعد الاعتراف به من قبل والده، "كُر وأنت حر".

وأوضحت الشوا أن تجربة فاطمة الحاج تفتح حوارا عن معلقة من عيون الشعر العربي، لكن فاطمة الحاج قررت أن تعتمد خيارات مغايرة بأسلوبها، ورؤيتها الفنية الخاصة، فالفنانة جردت عنترها من كل العتاد واللباس، وحتى من الشاربين كدلالة على البطولة والفحولة والرجولة، فأبصرته إنسانا بفطرته الأولى التي ورثها من أبيه آدم في جنته.

وتساءلت الشوا: "ماذا عن الألوان؟" لتقول: اكتفت فاطمة الحاج بتدرجات الأبيض والأسود وغابت الألوان، وكأنها أحالت اللونين إلى استخدام الضوء والظل في تلوين اللوحة، وأضحى اللون تعبيرا عن حالتي النور والعتمة، عتمة الاستعباد والظلم والتميز العنصري على أساس اللون، في مقابل النور في نهاية الجدارية، هي رحلة من الظلام إلى النور، وكأنها كما يقول د. سليمان العسكري: "تعلن رفضها المطلق للتفرقة، والعنصرية، والاستعلائية"، وتقول فاطمة عن عنترة إنه صورة مضيئة من تاريخنا العربي. حارب العنصرية التي ما زالت اليوم تشكل عبئا بشريا، وتزداد وتيرتها مع صعود حركات التطرف في العالم أجمع، حيث عادت الكراهية والعنصرية، والتصنيفات، بتبريرات لا تمت إلى القاسم المشترك الإنساني بصلة.

وأضافت أن التمعن بهذه الجدارية قد يشجع الجيل الجديد على قراءة مجددة لشعر عنترة، أو التعامل معه بمنظور جديد، مشيرة إلى حاجتنا إلى تجديد العلاقة مع الشعر العربي القديم، وأن الفنون أنجح الطرق لفتح قنوات جديدة للتعامل مع هذا الإرث، وهذا ينقلنا إلى علاقة بين نص أدبي عربي، وفنان عربي آخر من الموروث القديم، وهو كتاب المقامات لماتبه أبو محمد الحريري، الذي عاش في القرن 12 ميلاديا، مشيرة إلى أن كتاب المقامات كان "Best seller" في عصره، حيث ظهر فن كتابة المقامات كما يقول د. ثروت عكاشة في كتابة "موسوعة التصوير الإسلامي"، لأن المقامة في اللغة هي المجلس، يقوم به الأديب محدثا الجمع، المنصت إليه.

فصيح القول

وبينت أن كتاب الحريري عبارة عن خمسين مقامة بشخصيتين رئيسيتين؛ بطل المقامة أبوزيد السروجي، وهو شيخ محتال لكنه بليغ الكلام، فصيح القول، ويصحبة دائما رفيقه الراوي الحارث بن همام، ويروى الحارث عن مغامرات أبي زيد السروجي في النصب والاحتيال بلغة الأحاجي، والألعاب اللفظية في قالب كوميدي فرح، لتشتهر مقامات الحريري، وربما كان سببا في تخليدها هو فنان، عاش في بلده يطلق عليها واسط في جنوب العراق، والفنان اسمه يحيى الواسطي، احترف الخط والرسم والزخرفة، فخط ورسم مقامات الحريري في نحو 100 مزوقة أو منمنمة أي لوحة تصويرية مزخرفة في الكتاب مع النص الأدبي، فعرفت باسم مخطوطة الواسطي في القرن 13، فهو حول المقامات الأدبية التي ألفها الحريري إلى كتاب تصويري، وتعتبر من أوائل الأعمال الفنية في التصوير الإسلامي العربي، والتي شهرت الواسطي فعرف بشيخ المصورين، وهذه التصاوير الزاهية بألوانها تناولت مشاهد من الحياة اليومية في الحقبة العباسية، وأمدت الباحثين في دراسة العادات، والتقاليد، واللباس، بالكثير من المعلومات، فجاءت بمثابة علم موازٍ لعلم المقامات، كما أمدت تجربة الواسطي التصويرية، مسار الفن العربي برافد تاريخي نابع من المنطقة العربية، كما تقول سيلفيا نايف في كتابها "بحثا عن حداثة عربية"، أعطت الفنانين مرجعا لا بد منه، فغدا الواسطي رسام المنمنمات العربي التشخصي، هو رائدَ الفنون العربية الحديثة.

وقالت الشوا: "فماذا إذن عن تناول فن المقامات في الفن العربي المعاصر؟ باكتشاف الواسطي وجد الفنانون العرب مرجعا عربيا في فن التصوير، أطلقه فنانو جماعة بغداد للفن الحديث، ثم جاءت تجربة الفنان العراقي ضياء العزاوي، في إعادة نسخ مخطوط نادر لمقامات الحريري برسم يحيى الواسطي، محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، وهي التي تعتبر من روائع التصوير الإسلامي، وأمدت الفنانين بمصادر إلهام جديدة".