في أعقاب انطلاق المرحلة الانتقالية في السودان في شهر أغسطس من عام 2019 قامت وفود رفيعة المستوى من برنامج الغذاء العالمي بزيارات الى ولايات جنوب كوردوفان والنيل الأزرق لعرض فرصة نادرة تعبر عن أمل الملايين من المدنيين في أقاليم السودان الجنوبية والغربية التي يعصف بها النزاع الداخلي.

وقد أعلنت الحكومة الانتقالية بعد تلك الزيارات أن المنظمات غير الحكومية التي طردت خلال العهد السابق تستطيع العودة وممارسة عملياتها في شتى أنحاء السودان، وأنها رفعت كل القيود أمام المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة، وفي حين يعتبر ذلك الإعلان مهماً يظل التنفيذ رهناً بالمضي في خطوات عملية.

Ad

ويخضع ذلك التفاؤل للتهديد اليوم لأن التداعيات الاقتصادية التي أعقبت انتشار وباء كورونا أظهرت هشاشة الانتقال الديمقراطي في السودان، وفرصة حدوث تحسن في الوضع الإنساني هناك، كما أن القتال السياسي الداخلي يهدد بتقويض المكاسب التي تحققت على الصعيد الإنساني.

ومن أجل البناء على التقدم الذي تحقق يتعين على الولايات المتحدة والدول المانحة الأخرى تمكين الوكالات الإنسانية عن طريق المشاركة السياسية وزيادة تمويلها ودعمها الفني المرجو، كما يتعين على وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية تشجيع الحكومة في الخرطوم على تسهيل فرص وصول عمال المساعدات الإنسانية، وينطوي تمكين السلطات المدنية بدعم سياسي في الوقت الراهن على أهمية كبيرة بالنسبة الى السكان ومساعدة السلطات المدنية ضمن الحكومة السودانية.

عرقلة المساعدات الإنسانية

اشتهر السودان بتاريخه الطويل في إعاقة وصول المساعدات الإنسانية، وفي دارفور وثق عمال المساعدات عرقلة المساعدات الإنسانية منذ عام 2004 على الأقل، وشكلت أساليب الحكومات السودانية "حرب استنزاف بيروقراطية"، كما أن الرئيس السوداني السابق عمر البشير استخدم إعاقة إمكانية وصول المساعدات على شكل سلاح في الحرب ومنع وصول المساعدات الإنسانية الى المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار.

وفي أعقاب تعيين عبدالله حمدوك رئيساً لوزراء السودان في أغسطس من عام 2019 ازدادت الآمال حول إمكانية حصول المنظمات الإنسانية على فرصة أفضل للوصول الى مناطق لم تكن قادرة على بلوغها في السابق، والعمل بقدر أكبر من الحرية في أماكنها الحالية، وسجلت زيارة المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء الدولي ديفيد بيسلي الى "كودا" جنوب كوردوفان خلال أكتوبر 2019 أول زيارة لمسؤول من الأمم المتحدة الى ذلك الأقليم منذ عام 2011، وقد حظي بدعم من حمدوك وحكومة جنوب السودان وحركة التحرير الشعبي في السودان وقوى الأمن.

وفي مطلع ديسمبر 2019 منحت حكومة السودان وزعيم حركة التحرير الشعبي عبدالعزيز الحلو وكالات الأمم المتحدة فرصة للوصول الى مناطق رئيسة في "يابوس"، وبعد تلك الخطوات المبكرة أعلن مفوض الشؤون الإنسانية في السودان عباس فضل الله في مطلع يناير الماضي أن "السودان فتح الباب أمام عودة المنظمات الإنسانية الدولية التي كانت طردت خلال النظام السابق".

في غضون ذلك، تدهور الوضع الإنساني في السودان بسرعة، وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فإن 9.3 ملايين نسمة (حوالي ربع عدد سكان السودان) في حاجة الى مساعدات إنسانية في عام 2020، ويشمل ذلك العدد حوالي مليوني شخص من المهجرين في دارفور وجنوب كوردوفان وأقاليم النيل الأزرق اضافة الى مليون شخص من لاجئي جنوب السودان.

وقد فاقم انتشار وباء كورونا المستجد من سوء الأوضاع في دارفور وجنوب كوردوفان وولايات النيل الأزرق، وتأكدت أول اصابة بالوباء في السودان في 13 مارس الماضي، وفي الثامن من يوليو ارتفع عدد الاصابات الى أكثر من 10.250 حالة بما في ذلك 650 حالة وفاة في أنحاء السودان كافة، وتركزت أكثرية الإصابات في الخرطوم، ولكن الكثير من التقارير حذر من أن الوباء انتشر في بقية مناطق البلاد.

وانتشرت عدة أسئلة حول صحة أرقام الاصابات الرسمية، وفي خارج الخرطوم توجد إمكانية محدودة جداً للاختبار ويزداد الخطر في دارفور مع ضعف إجراءات الوقاية وتعرض كثير من سكان السودان لخطر المجاعة.

استجابة الدول المانحة

وضاعف في سوء وضع السودان استمرار تصنيفه من قبل الولايات المتحدة دولة راعية للإرهاب، وعلى الرغم من رفع معظم العقوبات الاقتصادية عن السودان فإن استمرار اعتباره دولة راعية للإرهاب يشكل عقبة أمام الحكومة المدنية، وهي تحاول إصلاح المتاعب الاقتصادية التي ورثتها عن النظام السابق، ويقول معظم المحللين إن عملية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب طويلة ومعقدة.

وتتمثل التحديات الكبيرة التي تواجه الاقتصاد السوداني في بقاء اسم السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب وديونه المستحقة للمؤسسات المالية الدولية، والتي تقدر بـ 3 مليارات دولار إضافة الى ديونه الداخلية البالغة أكثر من 57 مليار دولار، ويفضي تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب الى تنفير الاستثمارات الخارجية المباشرة وإمكانية حصوله على إعفاء من صندوق النقد الدولي ضمن شريحة برنامج الدول الأكثر فقراً.

وتجدر الإشارة الى أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سيمكن الولايات المتحدة من التصويت لصالحه في القروض والتسهيلات الائتمانية وضمانات المؤسسات المالية الدولية.

ومن أجل مواجهة التبعات القاسية الاجتماعية والاقتصادية لانتشار وباء كورونا عمدت حكومة السودان الى إقامة شراكة مع برنامج الغذاء الدولي من أجل تنفيذ برنامج دعم العائلة لتزويد 80 في المئة من العائلات السودانية بتحويلات نقدية شهرية لتخفيف الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، ويذكر أن نحو 65 في المئة من سكان السودان وبحسب أرقام الحكومة يعيشون تحت خط الفقر وتتركز تلك الشريحة في المناطق الريفية.

لكن جهد برنامج دعم العائلة يشكل خطوة صغيرة فقط نحو تخفيف مصاعب السودان الاقتصادية والإنسانية، وقد أبرزت مسيرات الاحتجاج المليونية التي جرت في الآونة الأخيرة الحاجة الى إجراء إصلاحات عاجلة، وخصوصا بعد استقالة وزير المالية والتخطيط الاقتصادي إبراهيم البدوي وهي خطوة تهدد مستقبل برنامج دعم العائلة الى حد كبير.

وعلى الرغم من التفاؤل الحذر المتعلق بالتزام الحكومة السودانية بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وزيادة اهتمام الدول المانحة بالوضع في ذلك البلد وعرض تقديم المزيد من الأموال اليه تظل الأوضاع الإنسانية محفوفة بالخطر، وتتطلب الحذر الشديد، كما تستمر المنظمات الإنسانية بالتعامل مع "بيئة عملياتية تنطوي على تحديات".

وقد أكدت مقابلات أجريت مع مشاركين في تلك العمليات أنه في حين حصل برنامج الغذاء العالمي وغيره من وكالات الأمم المتحدة على قدر كبير من حرية الحركة تستمر القيود أمام المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، وفي حين طرحت لجنة المساعدات الإنسانية في الخرطوم درجة استثنائية من الانفتاح إزاء تسجيل المنظمات غير الحكومية التي طردت في عهد الرئيس السابق عمر البشير فإن مكاتب تلك اللجنة في الولايات الجنوبية تخضع لسيطرة حكام الولايات المباشرة الذين تم تعيينهم من جانب قادة الجيش، وكانوا أقل تقبلاً لحضور المنظمات الدولية والمحلية.

وفي حين كانت لجنة المساعدات الإنسانية منفتحة على الوكالات الأجنبية على صعيد فدرالي فإن إرث البنية البيروقراطية ظل من دون تغيير، كما أن نقص إمكانية وصول المنظمات غير الحكومية الى المعلومات المطلوبة يبرز الافتقار الى معلومات عن مدى المساعدات اللازمة وخصوصا في المواقع التي لم يكن بالامكان الوصول اليها في الماضي.

ويتعين على المنظمات الإنسانية الاعتماد على معلومات ضعيفة تعزز الحاجة الى دعم تقني الى السلطات المدنية من أجل تحسين جمع ومشاطرة تلك المعلومات، والأكثر من ذلك أن القلق يزداد حول شفافية تمويل المساعدات الإنسانية وخاصة مع استمرار عناصر عهد عمر البشير في مناصبهم الحكومية.

من جهة أخرى، تم تعقيد وجود برنامج الغذاء العالمي ووكالات الأمم المتحدة الإنسانية من خلال الجدال حول تمويل مهمة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في دارفور والذي أسهم في توليد شعور بالمنافسة داخل المنظمة الدولية بشأن التمويل، وهدد بوضع هموم حماية المدنيين مقابل الجوع وأولويات المساعدة الأخرى.

وهكذا أصبحت الصورة في السودان تعبر عن أزمة تتمثل بضرورة توافر الشفافية حول العمليات الإنسانية ومواجهة التحديات المتعلقة بالاقتتال السياسي الداخلي ودور السلطات المدنية داخل الحكومة الانتقالية.

وتجدر الاشارة الى أن قوى الأمن في عهد عمر البشير تلاعبت في مسألة توزيع المساعدات الإنسانية وتستمر تلك العمليات في الوقت الراهن، وهي خطوة تسيء الى الحكومة الحالية التي تعجز عن ايصال المساعدات الى المحتاجين.

● جيكوب كيرتزر