يبدو أن بوريس جونسون بدأ يبني نسخته الخاصة من البيت الأبيض! فقد اتخذ رئيس الوزراء البريطاني وكبير مستشاريه دومينيك كامينغز خطوات يعتبرها البعض غير مسبوقة لفرض سيطرة مركزية على الخدمة المدنية، مما أدى إلى تأجيج المخاوف من تسييس الإدارة الحكومية البريطانية.سيطر جونسون وكامينغز على خزينة الدولة، وفرضا ضوابط صارمة على المستشارين في الوزارات، وقاما بتعيينات سياسية مثيرة للجدل في مجال الخدمة المدنية، واستبعدا شخصيات مرموقة على اعتبار أنها تعوق التغيير، وأعلنا خططا لتبسيط الاتصالات الحكومية، حتى أنهما قد يطالبان بمساحة إضافية في مكتب مجلس الوزراء.
يقول موظف حكومي رفض الإفصاح عن هويته: "يبدو أن هذه الإدارة تريد تبنّي نظام الحكم الرئاسي حيث يوسّع مركز السلطة نطاق سيطرته".يفرض الرئيس الأميركي سيطرته الشخصية على الأجندة الحكومية مباشرةً عبر فِرَق اقتصادية وأخرى معنيّة بالسياسة المحلية تنشط داخل البيت الأبيض، وفي المقابل، يُعتبر مكتب رئيس الوزراء في "داونينغ ستريت" معقلاً لتنسيق النشاطات وتبقى موارده محدودة، وهو يحاول الوصول إلى وزارات منفصلة عبر استعمال ثقافته وأساليبه الإدارية الخاصة لضمان تنفيذ خططه.
عجز في مراقبة الوزارات
خلال العقود الماضية، اشتكى رؤساء الوزراء المتلاحقون من ضعف سيطرتهم وعجزهم عن مراقبة الوزارات عن كثب، مما يزيد احتمال أن يواجهوا الأزمات المفاجئة من دون أي استعداد مسبق، فقد اتُّهِم طوني بلير وديفيد كاميرون وتيريزا ماي، بأساليب مختلفة وفي مراحل متنوعة من ولايتهم، بمحاولة التوجه نحو نظام رئاسي أيضاً لكن لم يتحقق على أرض الواقع أي إصلاح حقيقي في الإدارة الحكومية.ينفي مسؤول في "داونينغ ستريت" أي محاولة ناشطة لتقليد المقاربة الأميركية، لكنه يعترف برغبة مكتب رئيس الوزراء في توسيع صلاحياته في مختلف الوزارات كجزءٍ من الإصلاحات الرامية إلى تحسين طريقة تنفيذ السياسات وتسريعها.أوضح وزير شؤون مكتب مجلس الوزراء، مايكل غوف، في خطابٍ له الشهر الماضي الهدف من أجندة الإصلاح، فتعهد "بتغيير الحكومة لتحويلها إلى قوة فاعلة عند الاقتضاء".تعهد غوف أيضاً بتحسين أدوات تقييم فاعلية أداء الحكومة عبر البيانات المنشورة، وتحسين التدريبات على المهارات القابلة للتطبيق في مجال الخدمة المدنية، وزيادة فرص الترقية داخل الوزارات منعاً لإهدار الخبرات، وإخراج جزء من موظفي الخدمة المدنية من لندن لتجديد التواصل مع المناطق البريطانية الأكثر حاجة إليها.لتحقيق هذه الوعود كلها، عزز مقر "داونينغ ستريت" سيطرته على الإدارة الحكومية، إذ يوضح مستشار سابق: "اليوم لم يعد مكتب رئيس الوزراء جزءاً من الإدارة الحكومية بكل بساطة، بل إنه سيصبح أكثر اندماجاً معها. من الواضح أن بوريس ودومينيك يفرضان سيطرتهما في هذا المجال".هذه المقاربة تبدو غريبة على كامينغز الذي كتب في إحدى المرات عن ضرورة أن تتبنى الإدارة الحكومية "نهجاً لا مركزياً لصنع القرار كنمط تلقائي"، مع أن البعض يفترض أن مركز السلطة الأكثر قوة قد يدعم الوزارات عبر منحها توجيهات أكثر وضوحاً وإلزامها بتدقيق صارم كما قال كامينغز شخصياً للمستشارين الخاصين في يونيو الماضي.مخاوف
زادت المخاوف من تسييس الخدمة المدنية، رغم موافقة معظم المسؤولين على الطموحات الإصلاحية، بسبب هذه التحركات الرامية إلى إحكام القبضة عليها، واكتساب كامينغز نفوذاً غير مسبوق (كان قد كتب مدونات قوية حول إصلاح الإدارة الحكومية في السنوات التي بقي فيها خارج الحكومة)، وأسلوب أعلى مراتب السلطة التي لا ترحّب على ما يبدو بمن يتحدى صلاحياتها.يذكر البعض عدد التعيينات السياسية التي حصلت في الإدارة الحكومية منذ وصول جونسون إلى السلطة، أبرزها تعيين ديفيد فروست، كبير المفاوضين البريطانيين في ملف "بريكست"، كمستشار مرتقب للأمن القومي، كذلك، تم تعيين زميلَين سابقَين من مؤيدي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كمديرَين غير تنفيذيَين في مكتب مجلس الوزراء، وهما جيزيلا ستيوارت وهنري دي زويتي. يظن المسؤول في "دوانينغ ستريت" أن التعيينات السياسية في مناصب معينة ليست ظاهرة غريبة.إقالات غير متوقعة
اتخذ مكتب رئيس الوزراء أيضاً موقفاً عدائياً ضد كبار موظفي الخدمة المدنية لأنه يريد إقالتهم، فقد أعلن عدد من الأمناء الدائمين، منهم رئيس مكتب مجلس الوزراء مارك سيدويل، إقالات غير متوقعة. كان كبير الموظفين السابق في وزارة الداخلية، فيليب روتنام، قد طالب بتعويض بعد استقالته لأنه يزعم أنه تعرّض للمضايقة من وزيرة الداخلية بريتي باتيل، وعبّر جونسون عن دعمه لباتيل قبل أن يفتح تحقيقاً في الموضوع لكن لم تُنشر نتائجه بعد.تعرّض كبار المسؤولين لتعليقات سلبية من مصادر مجهولة في الصحافة لمجرّد أنهم لا يؤيدون مكتب رئيس الوزراء، وحاول البعض مهاجمة سيدويل على خلفية تعامله مع أزمة فيروس كورونا، لكنه اعترف في الشهر الماضي بأن هذا النوع من الهجوم "أحبط" فريق العمل كله.اعترف المستشار الخاص الآنف ذكره بأن مكتب رئيس الوزراء قد يكون "شرساً بعض الشيء" حين يُصدِر الأوامر لكبار المسؤولين، لكنه وضع مقبول برأيه لأن جونسون مُكلّف بمهام هائلة ويجب أن يحرص على تحقيق أهدافه في الحكومة.اعتبر مسؤول سابق آخر أن موظفي الخدمة المدنية يجب أن يبذلوا جهوداً إضافية "كي يحاربوا في سبيل الاحتفاظ بأدوارهم بدل أن يتقبلوا النقد اللاذع من الجميع".لكن ذكر الكثيرون أن التهديدات بالطرد الجماعي والتقارير العدائية قد تجعل كبار موظفي الخدمة المدنية يترددون في تقديم توصيات صريحة إلى مكتب رئيس الوزراء، وفي الوقت نفسه لن يكون تعيين بدلاء أكثر مرونة أفضل وصفة للحكم الرشيد.يوضح مسؤول مرموق سابق: "ظاهرياً، يبدو وكأنهم يريدون من الأمناء الدائمين أن يصمتوا وألا يجادلوا لأي سبب، فقد يضطرون في نهاية المطاف للجوء إلى التفكير الجماعي العقيم الذي يفتقر إلى التحدي والتدقيق، حيث تشهد الخدمة المدنية شكلاً واضحاً من التسييس في هذه المرحلة بالذات بسبب مستوى تركيز السلطة ودرجة انتقاء المسؤولين وتكليفهم بأدوار محددة".شعور بالقلق
يصرّ كبار المسؤولين في الحكومة، بما في ذلك سيدويل، على رفض جونسون لأي نوع من البيانات السلبية واعتراضه عليها، وصرّح أليكس تشيشولم، السكرتير الدائم في مكتب مجلس الوزراء، لصحيفة "بوليتيكو": "أنا أتقاسم مخاوف سكرتير مجلس الوزراء حول القصص السلبية والمنحازة بشأن موظفي الخدمة العامة في الصحافة، لكنّ كبار المسؤولين في فريق جونسون يشعرون بالقلق مثلي من تلك البيانات".كذلك، نفى تشيشولم الادعاءات المرتبطة بتسلل السياسة إلى الإدارة الحكومية فقال: "أنا لا أؤيد الفكرة القائلة إن الخدمة المدنية أصبحت مُسيّسة، ولا أظن أن أي طرف من الطيف السياسي يرغب في تغيير أسس الخدمة المدنية المحترفة والحيادية، لكني مقتنع في المقابل بضرورة الانفتاح على مقاربات ومعادلات جديدة في ظل البيئة المتطلّبة والمتبدّلة لصنع القرارات طالما تضمن تحسين الأداء في حُكْم البلد".شدّد المسؤول في "دوانينغ ستريت" بدوره على أن الخطوات الأخيرة "لا تهدف إلى تسييس الإدارة الحكومية، بل إنها ترمي فعلياً إلى ضمان تنفيذ قراراتها وسياساتها، وهو أمر مشروع. يبقى الهجوم العدائي في الصحافة مؤسفاً طبعاً لكنه جزء طبيعي من الحياة في "وستمنستر"، ولهذا السبب يجب ألا يعوق هذا الحدث مسار الأمور".يظن آخرون أن المقاربة المشتقة من مركز السلطة لن تضمن تنفيذ السياسات المعتمدة بفاعلية، فقد اعتبر مسؤولون حاليون وسابقون أن الحكومة تعجّ بوزراء يمتثلون لتعليمات مكتب رئيس الوزراء من دون أي اعتراض، ويبقى هامش استقلاليتهم ضيقاً عند التعامل مع الوظائف الأساسية.صرّح مسؤول سابق بأن أحد زملائه راح يضحك حين سُئِل عن رأي الوزراء بمسألة سياسية معيّنة قبل أن يقول بنبرة ساخرة: "رأيهم يشبه رأي رئيس الوزراء"!تعليقاً على خطة إصلاح الحكومة، يقول سكرتير دائم سابق: "لإنجاز المهام في الحكومة، ثمة حاجة إلى وزارات قوية يرأسها وزراء بارعون جداً ولديهم أهداف واضحة، لكنّ هذه العوامل كلها تبدو مفقودة في هذه الأجندة. نحتاج إلى وزراء يستطيعون مهاجمة الحكومة وتحقيق الفوز أحياناً، أو تحويل الأفكار إلى مشاريع عملية على أرض الواقع، أو لديهم الصلاحية لتبديد جميع الأفكار السيئة تزامناً مع مواجهة الأحداث والأزمات المستجدة، لكني أتساءل: أين هؤلاء الوزراء"؟قد تنهار هذه المقاربة الرئاسية على رأس جونسون في نهاية المطاف إذا طرح مجلس الوزراء ومساعدوه أفكاراً مختلفة، فرغم امتلاكه أغلبية مؤلفة من 80 مقعداً، فقد سبق أن أحدث عدد من النواب في حزب "المحافظين" المشاكل في ملفات مثل الصين والمعايير التجارية.أخيراً، يقول أليكس توماس من منظمة "معهد الحكومة": "مع مرور الوقت، سيجد جونسون صعوبة إضافية في السيطرة على جميع المسائل انطلاقاً من السلطة المركزية، حين ينجح النواب في فرض قوتهم ويخالفه الوزراء في الحكومة الرأي، ومن الأصعب أن يتجاوز أي رئيس وزراء بريطاني هذا الوضع مقارنةً بأي رئيس أميركي".*كارولين روز