«ممنوع من النشر»
في اللحظة التي حبس العالم فيها أنفاسه إثر انتشار وباء كورونا (يناير 2020) وتوقفت وسائل العيش التي اعتاد الإنسان أن يمارسها استعاض بالعالم العلوي الآخر، أقصد الفضاء الإلكتروني ليحل مكانه دون رقيب أو حسيب. وطوال ثمانية أشهر متصلة انتقلت حياتنا عبر "الأونلاين" بدءاً من طلب علبة حبر تصلك إلى البيت مروراً بالصحافة التي تحولت إلكترونياً وتطالعها عبر جهاز الآيفون أو الأيباد أو جهاز الكمبيوتر، وانتهاء بأعمال الكتابة والتأليف ونشر الكتب، وهي تتساقط عليك دون أن تطولها يد الرقيب! المسألة لم تتوقف عند حدود الإغلاق والمنع والعزل الذي فرضه الوباء (كوفيد– 19) المستجد، بل هو واقع مستمر وسينمو هذا العالم الفضائي ويتسع بصورة لم نكن نعهدها من قبل.
إذاً كيف سيستقيم وضع الرقابة على المطبوعات في ظل هذا الانفتاح الكامل وغير الخاضع للمنع! وعن أي رقابة لاحقة أو سابقة سيكون الحديث هنا، طالما بقيت أنشطة التواصل والإنتاج والقراءة قائمة في ظل ثورة الاتصالات التي وحدت الكرة الأرضية وجعلتها بلداً واحداً مفتوحاً! إذا شئت اليوم الحصول على أي كتاب مطبوع يمكنك الحصول عليه دون إذن من أي جهة رقابية، ليس في الكويت فقط، بل في معظم دول العالم! ما حصل من تغيير جزئي ومحدود بإلغاء الرقابة المسبقة على المطبوعات التي تأتي من خارج الكويت، ما هو إلا خطوة متواضعة وصغيرة جداً، إزاء ما تتطلبه أجواء الحريات وينسجم مع ما تشهده بلدان أخرى والعالم من انفتاح وتحرر من الرقابة المسبقة، سواء كانت بالداخل؟ أم بما يصل إليها عبر المنافذ الحدودية. لسنوات خلت كان خط الكويت– بيروت يسير بالاتجاهين، عدد لا بأس به من أصحاب الفكر والكتابة يذهبون إلى لبنان لطباعة كتبهم والتعاقد مع إحدى دور النشر هناك، على اعتبار أن الرقابة هنا ستمنع هذه الإصدارات وفي الوقت الذي تخرج فيه تقارير صحافية عن هذا المطبوع أو تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي أخبارا أو مراجعات عنه حتى يتهافت الناس على قراءته، بل الحصول عليه دون الحاجة إلى أخذ إذن من الرقيب! السباق على أشده في عالم الفضاء الإلكتروني بين عقلية المنع وعقلية الفسح، لذلك نظر البعض إلى ما تحقق بكونه خطوة لا تفي بالغرض ولا تلبي الطموحات، وأظهرت الفرق الشاسع بين ما يحدث على الأرض وبين ثورة الاتصالات والنشر المفتوح على مصراعيه. التوجس عند معظم المثقفين إزاء هذا التعديل بقانون المطبوعات لم يكن مفاجئاً، فمنع الكتاب أهون من فسحه، إذا كان سيتسبب في محاكمة صاحبه، على حد تعبير الروائي عبدالله البصيص في "الجريدة"، بعد رفض قانون إلغاء عقوبة الرأي، ربما كان هذا الأمر محل اهتمام بعض النواب أمثال النائب عمر الطبطبائي لإلغاء عقوبة السجن من قانون المطبوعات والمرئي. وتاريخ الرقابة على الكلمة مليء بالوقائع والروايات، منها ما هو مدون ومنها ما هو ممنوع من النشر، وحرية التعبير عن الرأي ارتبطت في أحد وجوهها بالرقيب الذي يقوم بدور "الحارس" على أفكار الناس، نيابة عن المجتمع والسلطة. صحيح أن الرقابة ليست صناعة كويتية بل هناك من يمارسها "تحت الأرض" وفي الغرف المغلقة، لكن بحكم العمل الذي مارسته في "القبس" وفي الفترة التي فرضت فيها الرقابة المسبقة على المطبوعات قبل صدورها كانت لي تجربة بمعايشتها منذ عام 1986 وإلى 1992 حين تم رفعها عقب عودة السيادة إلى دولة الكويت الحرة بعد التحرير. عاصرت مراحل مختلفة من الرقابة منذ السبعينيات والتي طالت الصحف والمجلات والكتب، وأيضاً رقابة "أهل البيت من الداخل"، تسنى لي الوقوف على حصيلة من أعمال الرقابة بكل أشكالها، وضعتها في كتابي "ممنوع من النشر" والصادر عن "ذات السلاسل" عام 2013، تضمن قصة الرقابة منذ عهد حكم الشيخ مبارك الصباح وصولاً إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لعل أهم فصل هو ذاك المتعلق بالرقابة الداخلية داخل الصحف باعتباره أمراً لم يكن يخرج إلى العلن، إلا في الحالات النادرة، لكن مع ظهور الإنترنت بات إخراج الممنوع سهلاً، حيث دأب عدد من الكتّاب على التشهير بالمطبوعة التي تمنع مقالة أحدهم، يسارع إلى توزيعها عبر "الإنترنت" ومشفوعة بعبارة "منع من النشر" حتى تحظى بقراءتها بأعداد تفوق أعداد توزيع الصحيفة بمئات المرات! عن تلك الحالة، أتذكر مقالة كتبها الزميل عبداللطيف الدعيج وكانت بعنوان "مستعد لمقايضة كل حرف بيوم سجن" انتقد فيها موقف رؤساء تحرير الصحف في حينه، والسلام.