رجل لا ينساه التاريخ
عرفت هذا الرجل في العامين الأخيرين لي بوزارة الخارجية، وتحديداً قبل التفرغ لحياتي الخاصة في عام 2003، وبالمناسبة كان أمامي عشرون عاماً حتى أصل إلى سن التقاعد، والحقيقة أنني لا أؤمن بأن يستمر الإنسان طوال عمره في مجال العمل الوظيفي الحكومي، فخرجت من قيود السلك الدبلوماسي، مثل الطير الذي كان محبوساً بالقفص وانطلق في هذا الكون الفسيح بكل حرية. كان هذا قراري، رغم المعارضة الشديدة من الوزير الشيخ د. محمد صباح السالم الصباح للبقاء والاستمرار في العمل، ورغم الإغراء بمنصب قيادي آخر بارز يتعلق بتولي مسؤولية إدارة مهمة تختص بالإعلام والبحوث والدراسات، ولكن قدر الله وما شاء فعل. والآن بعد هذه السنوات الطويلة من مغادرتي لـ "الخارجية" لا أرى أمامي إلا الذكريات الجميلة لهذا الرجل، ففي الأسبوع الأول لشغله المنصب الوزاري دعا إلى مكتبه كل القياديين بالوزارة، والسفراء والوزراء المفوضين، واتخذ الجميع مقاعدهم على شكل دائرة كبيرة وأمامهم أطباق صغيرة بداخلها "رطب السعمران"، وكنا حينئذ في أول الصيف وبداية اقتطاف الرطب.
فقال للمجتمعين: تفضلوا الرطب.وتناول بعض الحاضرين من الرطب، فسألهم: ما رأيكم في الرطب؟فقلت: "بصراحة مو جيد".ابتسم، وقال: بالفعل كلام الأخ عادل صحيح، وفهمت أن الغرض من السؤال كان اختبار الحاضرين في المصارحة دون مجاملة، ولو لم أتسرع بالإجابة لقال البعض: "خوش رطب طال عمرك"!بعد شهر من توليه الوزارة، فوجئت بدخوله مكتبي، وبيده كيس، وقال: هذه هدية لك وحدك، ولا أعطيها أحداً غيرك.وتساءلتُ: لماذا الهدية التي خصني بها وحدي دون غيري؟ ومَن أكون حتى يأتي الوزير بنفسه ليعطيني هدية؟! ووجدت الهدية تشكل بالنسبة لي اهتماماً كبيراً لعلاقتها بالتراث الشعبي الكويتي، والتي كانت عبارة عن أوعية زجاجية من المشروبات الغازية القديمة مثل "النامليت والسينالكو والزمزم والصباح"... ما أجمل الهدية! وما أروعها من هذا الرجل الذي أوصلها إلي بيده!وفجأة... في يوم من الأيام بذلك الوقت، دخل الوزير الجديد مكتبي وبمعيته وكيل الوزارة السفير خالد الجارالله وعدد آخر من كبار المسؤولين لتفقد العمل بنفسه، فلم أشاهد برفقته أياً من الأجهزة الإعلامية أو الصحافية التي عادة ما ترافق الوزراء في جولاتهم، فهو رجل عملي لا يحب الأضواء، ويعمل بصمت وهدوء وحكمة.اتخذ جلسته الطبيعية مع قياديي الوزارة، ودار حديث ودي، ثم انتقل إلى شؤون العمل، ووجّه إلي سؤالاً لم يخطر على بالي، إذ قال: هل تؤيد دخول اليمن إلى عضوية مجلس التعاون؟أجبت دون تردد بعدم ارتياحي لهذه المبادرة، لعدة أسباب، وشرحتها تفصيلاً.ولاحظت استماعه الجيد، ودقة توجيه المداخلات لمعرفة كل الجزئيات، والأهم أنه رجل سياسة واقتصاد، إذ كان يعمل قبل توليه المنصب الوزاري أستاذاً للاقتصاد في جامعة الكويت، ومستشاراً للأبحاث الاقتصادية في معهد الكويت للأبحاث العلمية، وأنجز عدداً من الدراسات في هذا المجال، وما يهمنا هو حرصه الشديد على تطوير الاقتصاد والتجارة، وشفافيته المعهودة بالمصارحة. وكان يشعر دائماً بعدم الارتياح لاعتماد الكويت، بشكل أساسي، على مصدر واحد للدخل، في ظل انخفاض أسعار النفط وتقلباتها المحفوفة بالمخاطر، وكان ينادي في كل مناسبة بإيجاد بدائل أخرى مساندة للاقتصاد الكويتي، وكان قراره بإنشاء الإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية خطوة مدروسة ومباركة، فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة.أما الجانب الآخر، فهو اهتمامه بكل ما يتعلق بتاريخ الكويت وتراثها، وأتذكر أنه عاتبني بشدة عند افتتاح ديواني الجديد، الذي كان بمثابة متحف مصغر؛ لإزالتي الوثائق والأدوات القديمة منه.فقلت: موجودة بالسرداب، فرد بطريقة يبدو فيها عدم الارتياح: كيف يراها الناس ورواد الديوان وهي في السرداب؟!ولهذا الرجل ديوانه العامر بكل أطياف المجتمع، الذين يُشعرهم بأنهم أصحاب الديوان وهو الضيف بينهم، فما أجمل هذا التواضع والمشاعر الرائعة النابعة من قيم مجتمعنا الكويتي العريق!افتقدناك يا بوصباح، وأتمنى أن تكون في أسعد وأطيب حال.