رياح وأوتاد: البديع في بيان شروط فتاوى الصلح والتطبيع
في مقال الأسبوع الماضي بينتُ خطورة تبلد مشاعر كثير من المسلمين تجاه كثير من المنكرات المنتشرة والتي تمس القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم والتشريعات الإسلامية والاعتداءات الصهيونية على الأراضي والمقدسات والحرمات، وتغلغلهم في بعض بلاد العرب والمسلمين، حيث لا تواجه هذه الممارسات بالإنكار الرسمي الواجب والاستنكار والغضب الشعبي المطلوب حسب القواعد الشرعية في إنكار المنكر إلا اليسير وغير الكافي.ولا شك أن الشعوب تملك كثيراً من الأدوات الشرعية للتصدي لهذه المنكرات دون أن تلجأ إلى الخروج على النظام وهو مخالف للشرع بالطبع، وإذا حيل بين المصلحين والإصلاح فعندها لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وعلى المصلحين الصبر وتقوى الله حسب الاستطاعة.كما تطرقت في المقال إلى إعلان التطبيع والسلام الدائم مع القاتل المغتصب وتشويه الفتاوى الشرعية المتعلقة بالحرب والهدنة في الإسلام.
وهذا الموقف ينطلق من نظرة شرعية أساسية مبنية على فتاوى كبار العلماء وأساتذة الشريعة الثقات وإسقاطها على ما أُعلن من اتفاقيات صلح أو تطبيع (رغم مخالفتها لشروط العلماء) مع أشد الناس عداوة للذين آمنوا في أي بلد كان وليس المقصود بلداً بعينه. فقد جاء في فتوى الإمام ابن باز: "إن اليهود اعتدوا على أرض فلسطين والواجب على المسلمين جهادهم حتى يخرجوا من بلاد المسلمين". (2-371). كما جاء في فتاوى الشيخين ابن باز وابن عثيمين أن الصلح المؤبد محرم شرعاً بالإجماع، وهذا عينه الذي ذكرته في المقال السابق. كما بين الشيخان في الفتاوى أن الصلح المؤقت ينتهي بانتهاء مدته وأن الصلح المطلق أو غير المؤقت ينتهي متى ما جاء الجهاد، حيث قال ابن باز: "إذا جاء الجهاد ينبذون إليهم عهدهم ويقولون لهم (ولوا)"، إذاً فكلا النوعين المؤقت والمطلق مآلهما إلى نهاية وجهاد حسب فتوى الشيخين. كما جاء في فتوى الشيخين أيضاً أن الصلح المؤقت والمطلق (الذي عبر عنه ابن باز بأنه غير المحدد بمدة)، لا يكون إلا للضرورة وبشروط محددة أنقلها هنا بالحرف من الفتاوى المكتوبة والمسموعة للشيخين وهي: 1- أن يكون ولي الأمر مسلماً يتقي الله. 2- وفي فتوى أخرى بشأن الصلح بين الفلسطينيين واليهود قال ابن باز يجب على الرئيس الحكم بشريعة الله. 3- الصلح المؤقت وغير المحدد المدة يكون عند العجز عن قتال المشركين والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب، أما مع القدرة على قتالهم فلا تجوز المصالحة معهم وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة والضرورة. 4- أن تتوافر في الصلح المصلحة العامة وأن تكون أسلم للمسلمين من قتل أولادهم وإيذائهم.5- أن تدفع الشر عن المسلمين.6- الموافقة على الصلح حتى يعطي الله المسلمين القوه لكي يستطيعوا تخليص بقية أرضهم، وأيضاً جاء في فتوى أخرى: "إذا جاء الجهاد يتم قطع الصلح وفسخه وينبذ إلى اليهود". 7- وفي فتوى أخرى قول ابن باز: لأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة. 8- يجب أن يكون الصلح على طريقة تنفع المسلمين (مو صلح ياسر وأتباعه). 9- يجب أن يحقن الصلح دماء المسلمين.10- ويمكّن الصلح من عبادة الله وحده.11- يجب فيه (أي الصلح) أداء الحقوق ودفع الشر عن المسلمين.12- لا تجوز موالاة اليهود ولا محبتهم أو مودتهم أو تغيير المناهج التعليمية.13- لا يجوز تمليك اليهود أرض المسلمين تمليكاً دائماً، ويجب قتالهم عند القدرة وإبعادهم عن ديار المسلمين. وعند إسقاط هذه الشروط التي نقلتها من كلام الشيخين على اتفاقيات الصلح والتطبيع القديمة والحديثة في أي بلد لنا أن نسأل:1- هل طلبت أي دولة الفتوى والحكم الشرعي بشأن المعاهدات أو أي اتفاق مع اليهود؟ وهل تم عرض هذه الاتفاقيات على الفقهاء قبل عقدها لأن هذا من تقوى الله كما ينص الشرط الأول؟ 2- هل تمت الشورى كما قال تعالى: "وأمرهم شورى بينهم"، وهي من متطلبات تقوى الله أيضاً؟ وهل تم عرض هذه الاتفاقات وملاحقها على أهل الحل والعقد في الأمة؟ وهل تم شرح الضرورة والمصلحة الشرعية فيها بالاستعانة بالمتخصصين الشرعيين والسياسيين؟ أم أن الموافقة على الاتفاقيات قد اتخذت بسرية وبشكل منفرد؟ 3- احتجت الدول التي سبقت في عقد المعاهدات بوجود الضرورة في حقن دماء مواطنيها كما جاء في الفتاوى، حيث إن أراضيها محتلة، وقد سبق أن فقدت عشرات الآلاف من الشهداء في أربع حروب وتريد استعادة أراضيها وحقن دمائها والتقاط أنفاسها اجتماعياً واقتصادياً، فهل توجد ضرورة حقيقية بالنسبة إلى دول عربية أو إسلامية أخرى تبتعد المسافات الشاسعة عن الأرض المحتلة، ولم تخض أي حروب ولا يشكل الاحتلال أي خوف أو ضرورة لها؟ 4- أين هي المصلحة الشرعية في الخروج عن المبادرة السعودية التي أجمع عليها الخليجيون وكل العرب في قمة بيروت عام 2002 والمعروفة باسم "الأرض مقابل السلام"، وكذلك حل الدولتين الذي تطالب به أوروبا، ومعظم دول العالم والمبني على القرارات الدولية؟ وهل سيؤدي هذا الخروج إلى قوة المسلمين أم إلى مزيد من ضعفهم وتشتتهم وتقوية اليهود عليهم؟ 5- هل تم أداء الحقوق ودفع الشر عن المسلمين المحاصرين والمظلومين كما نصت الفتاوى الشرعية أم أن القتل والتشريد يطالعنا يومياً وبالإحصائيات في نشرات الأخبار؟ 6- هل تم منع تمليك اليهود تمليكاً مؤبداً لأرض ومقدسات المسلمين أم الإعلان عن رفض تمليكهم كما جاء في الفتاوى؟ أم أن ما تم هو إصرار الطرف الآخر على الضم القديم والتعليق المؤقت للضم الجديد فقط واستبعاد التعليق لاحقا كما صرح ترامب: "Annexation off the table for now"؟ وأيضاً كما صرح نتنياهو في 15/ 8/ 2002 "ربحنا الأرض التي سيستمر ضمها وربحنا علاقة مع دولة عربية دون مقابل"؟ 7- هل أدت الاتفاقيات إلى مصلحة وقف بناء مزيد من المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة وإعادة الحقوق إلى أصحابها كما تنص الفتاوى، أم أن البناء ما زال مستمراً؟ 8- ترفض دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن ضم الأراضي المحتلة، ومازالت تطالب بحل الدولتين، ولا شك أن من المصلحة الشرعية عدم فقد هذا التأييد، فهل ستؤدي الاتفاقيات المنفردة وتجاهل الأرض والمقدسات التي سبق ضمها إلى تخلي الاتحاد الأوروبي عن موقفه الرافض لضم الأراضي المحتلة؟ لأن العرب غير جادين بالتمسك بمطالبهم التي أجمعوا عليها في السابق. 9- تنص كثير من اتفاقيات التطبيع على ترك العداوة والتطبيع الرسمي في التعليم والثقافة والسياحة والإعلام مع اليهود، خلافاً للفتاوى الشرعية التي تنص على إعداد العدة للجهاد وتحريم المودة والموالاة مع اليهود الغاصبين، فهل يتفق هذا مع المعاهدات؟ 10- تنص كثير من الاتفاقيات على وضع قيود على التسلح أو الاقتراب من الحدود المغتصبة مثل ما نصت اتفاقية كامب ديفيد على منع القوات المسلحة المصرية من الدخول إلى سيناء؟ كما أوقفت إسرائيل بيع طائرات عسكرية متطورة إلى إحدى الدول ذات العلاقة معها، في حين نصت الفتاوى الشرعية على ضرورة الاستعداد للجهاد لفسخ المعاهدات عند تحقق القوة للمسلمين، فهل يتفق هذا مع المعاهدات بهذا الشأن؟11- تنص الفتاوى على أن جواز الصلح غير المقيد بتوقيت معين مقرون بوجوب الاستعداد للجهاد واستعادة الأرض والمقدسات متى استعد المسلمون وتحققت لهم القوة، أما التطبيع فإنه يعني ترك الحرب بصفة دائمة ونهائية، وأن الاستعداد للجهاد مخالفة للتطبيع، فهل تبينت هذه المسألة عند الذين جوزوا الصلح دون شروط؟12- مرت على معاهدات السلام والتطبيع التي تمت بين اليهود وبعض الدول العربية سنوات طويلة، وقدم الفلسطينيون تنازلات كثيرة في مدريد وأوسلو وغيرهما، فهل أعد المطبعون العدة للجهاد؟ وهل تحققت المصالح المرجوة مثل إعادة المقدسات أو حقن الدماء أو تحسن أوضاع المسلمين؟ أو على العكس تم الاستيلاء على مزيد من الأراضي والاعتداء على أرواح وحقوق المسلمين؟13- هل من المصلحة إدخال اليهود، كما تنص الاتفاقات، للسياحة والثقافة والإعلام في أي بلاد إسلامية بحجة التطبيع، علما أن أحكام الشريعة تختلف دينياً وثقافيا وأخلاقياً عن ممارسات اليهود، هذا بالطبع بالإضافة إلى ما يجيده اليهود من إفساد الأخلاق والتجسس والسيطرة على الإعلام والاقتصاد؟ فأين هذا من المصالح الشرعية التي تحدث عنها الفقهاء؟نتائج مهمة:أولاً: أن الفتاوى الشرعية لكبار العلماء يجب أن تنقل كاملة بجميع شروطها وأقسامها عند المناقشة والحديث عن معاهدات السلام. ثانيا: عندما نتأمل هذه الشروط سيتقلص كثير من الخلاف بين الفقهاء والمهتمين في هذا الشأن، وسنجد أن اتفاقيات الصلح المؤقتة أو المطلقة تنتهي بالجهاد وطرد اليهود، أما إذا خلت الاتفاقيات من جميع هذه الشروط والقواعد التي نقلناها من فتاوى المشايخ أو تضمنت الإقرار لليهود بما تحت أيديهم من الأرض والمقدسات أو عدم المطالبة بها فإنها تعتبر صلحاً دائماً، وهو القسم الذي يحرمه الشيخان بالإجماع. ثالثا: ليس في ما أعلن عنه أو تسرب من التصريحات والاتفاقيات ما يبين مدى التزام طرفي الصلح بما جاء من شروط شرعية، لذلك فالدفاع الشرعي عنها مخالف لفتوى الشيخين. الخلاصة: يجب على الدول عند توقيعها لأي اتفاقية أن تضع الشروط التي بينها الشيخان، وأن تؤكد أنها غير دائمة أو مؤبدة، وأنها لا تملك اليهود أرض ومقدسات المسلمين تمليكاً مؤبداً، لأنها إذا كانت مطلقة أي غير محددة التوقيت ولم تذكر فيها هذه الشروط، ثم سجلت في الأمم المتحدة فإن القواعد والقوانين الدولية ستعتبرها مؤبدة مما يستحيل بعد ذلك فسخها حسب فتوى الشيخين عندما تريد الدولة ذلك، وهذا للأسف ما حدث في بعض الدول التي طبعت سابقاً، والله أعلم. خاتمة:نحمد الله تعالى ونشكره على نظام الحكم في الكويت الذي وضعه الآباء والأجداد بالتفاهم مع أسرة الحكم، حيث جاء فيه أن الاتفاقيات لا تقر إلا بعد عرضها على مجلس الأمة ومناقشتها بكل حرية على ضوء الشريعة الإسلامية والمصلحة العامة والتصويت عليها، ويشارك في مناقشتها الشعب والمتخصصين بكل حرية دون خوف من أي إجراء يمس رأيهم أو حريتهم، لذلك فالعالم الإسلامي بأسره يغبط الكويت على حريتها وموقفها الرافض للتطبيع، فالحمد لله على هذه النعمة.