أوروبا تفتقر إلى سياسة خارجية واضحة
احتاجت أوروبا إلى أيام قبل أن تطلق موقفاً محدداً حول أحداث بيلاروسيا، ويبدو أن الاتحاد الأوروبي لا يتبع وجهة واضحة لرسم سياسته الخارجية في أي مكان آخر، إنه وضع خطير!أوروبا قارة غنية تبرع في مسائل كثيرة، فقد نجحت حتى الآن مثلاً في مواجهة أزمة فيروس كورونا المستمرة بطريقة أفضل من مناطق أخرى في العالم، لكن تواجه هذه القارة في الوقت الراهن تهديدات خارجية ليست مستعدة لها، فقد توسّعت مظاهر غياب الاستقرار في المنطقة المجاورة لأوروبا. ويتجاهل الكثيرون هذا الوضع في أوروبا عموماً وفي ألمانيا خصوصاً، ويبدو أن التركيز على الذات أصبح هواية مفضلة للكثيرين في هذه المنطقة، ونتيجةً لذلك، لا أحد يجيد التعامل مع المشاكل المزعجة التي تحيط به، ففي بيلاروسيا، ذلك البلد الأوروبي غير الساحلي، تعمد قوى الأمن التابعة للحاكم الدكتاتوري ألكسندر لوكاشينكو إلى إطلاق النار على المواطنين أثناء احتجاجهم ضد تزوير الانتخابات الأخيرة، ومع ذلك لم يستطع الاتحاد الأوروبي صياغة أي ردّ على ما حصل. لقد مرّت أيام عدة قبل أن يتمكن مسؤول مرموق في مجال الشؤون الخارجية داخل الاتحاد الأوروبي أو وزير الخارجية الألماني من صياغة تصريح قوي جزئياً لإدانة أعمال العنف، ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو يخشيان أن يتقرب لوكاشينكو بدرجة إضافية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في حال بقائه في السلطة، أو أن يسمح بنشوء قواعد عسكرية روسية على أراضي بيلاروسيا. أمام هذا الوضع، تبدو أوروبا عاجزة بالكامل في هذا الملف. في منطقة البحر الأبيض المتوسط، يبدو الوضع أقل استقراراً بعد، إذ يتعامل الاتحاد الأوروبي هناك مع مجموعة من القوى العدائية التي تسعى إلى الاستفادة من أعمال العنف والفوضى المستمرة في سوريا وليبيا للاحتفاظ بالنفوذ والأراضي، منها إيران وروسيا والإمارات العربية المتحدة وأخيراً تركيا. تؤدي تركيا في الوقت الراهن دوراً مركزياً في ليبيا التي تحمل أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة إلى أوروبا، ولا يقتصر الوضع على ذلك، بل تجازف تركيا اليوم بخوض مواجهة عسكرية مع اليونان المنتسبة إلى الاتحاد الأوروبي، علماً أنها حليفة ظاهرية لتركيا داخل حلف الناتو، وتقوم سفينة مسح تركية، إلى جانب أسطول من السفن الحربية، بالبحث عن احتياطيات الغاز الطبيعي في المياه التي تطالب بها اليونان، ويرتكز هذا المشروع على أموال طائلة لكنه يتطلب أيضاً نفوذاً جيوسياسياً كبيراً. لا يمكن استبعاد تصعيد الوضع في أي لحظة، لكن ما الذي سيحصل في هذه الحالة؟ لن يصمد الاتحاد الأوروبي لوقتٍ طويل إذا كان يعجز عن تطوير أي طموح جيوسياسي واضح وإذا لم يبذل الجهود اللازمة كي يتحول إلى قوة دبلوماسية وعسكرية فاعلة، تبدو فرنسا، بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، الدولة الأوروبية الوحيدة التي تبدي اهتمامها اليوم بأداء دور مماثل، لكن تبقى معظم تحركاتها أحادية الجانب.
على صعيد آخر، تشتق السياسة الخارجية العقيمة في أوروبا من عجز الاتحاد الأوروبي عن الاتفاق على مسار عمل صحيح في معظم الأوقات، لكن تبرز عوامل مؤثرة أخرى، ففي ألمانيا مثلاً، يستطيع المرشّحون لأعلى المناصب السياسية في البلاد أن يتجاهلوا بكل ثقة مواضيع السياسة الخارجية لأنهم يعرفون أن هذه المسألة لن تُذكَر مطلقاً في المقابلات الإعلامية. يعكس هذا الوضع كله شكلاً خطيراً من الانغلاق على الذات، فقد بدأت علاقات القوة في جوار أوروبا تتبدّل بسبب انسحاب الولايات المتحدة من الساحة، وحان الوقت إذاً كي تهتم برلين أخيراً بهذه التطورات بدل أن تتابع الانشغال بشؤونها الداخلية حصراً. * «ماثيو فون رور»