النموذج الأرمني في بيلاروسيا
استفاد عدد كبير من المراقبين الغربيين من أحداث أوكرانيا بين عامي 2004 و2005 والثورات في عام 2014 لفهم طبيعة الاحتجاجات الحاشدة في بيلاروسيا، لكن من الأفضل أن يقارنوا الوضع هناك بالعملية الانتقالية الديمقراطية التي حصلت في أرمينيا في عام 2018، إذ لم يطالب الأرمن حينها بتغيير وجهة البلد الجيوسياسية بل بالحُكم المحلي، وقد أحدث هذا الخيار فرقاً كبيراً.ففي حين ينزل سكان بيلاروسيا إلى الشوارع بأعداد غير مسبوقة ويرفضون الاستسلام أمام أعمال العنف التي تمارسها الدولة، من الواضح أن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو فشل في محاولة سرقة استحقاق انتخابي جديد لإطالة عهده، ووفق جميع المعايير أصبحت أيامه في السلطة معدودة الآن.تختلف الانتفاضة الحاصلة في بيلاروسيا عن أحداث أوكرانيا، ويبدو أن المشاكل المحلية لها الدور الأكبر في تصعيد الوضع هناك وتغيب في المقابل المسائل المرتبطة بتعامل البلد مع أوروبا أو روسيا. لقد سئم المواطنون في بيلاروسيا بكل بساطة من عهد رجلٍ يزداد بُعداً عن مشاكل المجتمع ويحكم البلد منذ 26 سنة. تتمثل راية الثورة بالعلم الوطني البيلاروسي المحظور باللون الأبيض والأحمر والأبيض، ومن المتوقع أن يصبح قريباً علم البلد الرسمي (كما كان في عام 1918 وبين العامَين 1991 و1995). لم تظهر أي رايات أخرى حتى الآن.
على كل ثورة سياسية أن ترسم مسارها الخاص طبعاً، لكن النماذج السابقة تساعد المراقبين الخارجيين على فهم التطورات المرتقبة، ففي ما يخص بيلاروسيا تبدو الأحداث أقرب إلى أرمينيا في ربيع 2018، حين أدت تظاهرات ضخمة إلى استقالة الرئيس سيرج سركسيان الذي حكم البلد لفترة طويلة وإطلاق حقبة ديمقراطية جديدة.كانت علاقة أرمينيا وثيقة بروسيا أيضاً لأسباب تاريخية واستراتيجية، ففي 2013 لم ينضم البلد إلى جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا للتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة العميقة والشاملة مع الاتحاد الأوروبي، بل فضّل الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا.خلال أحداث عام 2018، سادت مخاوف مبررة من احتمال تدخّل روسيا بطريقة ما لكبح "ثورة ملوّنة" أخرى في جمهورية سوفياتية سابقة، لكن نظراً إلى عدم استعداد أرمينيا لتغيير وجهتها الجيوسياسية، منع الكرملين نفسه من التدخّل. في أفضل الظروف، كانت الثورة الأرمنية تشكّل نموذجاً مناسباً لبيلاروسيا، حيث يتعلق الهدف الفوري بنشوء إدارة انتقالية تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية جديدة تحت إشراف دولي، ولضمان عملية سلسة يجب ألا تصبح وجهة بيلاروسيا الخارجية محط نقاش وأن تتمحور الانتخابات والصراعات عموماً حول الديمقراطية داخل البلد حصراً.لخلق الظروف المناسبة لتكرار "النموذج الأرمني"، يجب أن يُصمّم الاتحاد الأوروبي عقوباته المقبلة بحذر، مما يعني أن تستهدف المسؤولين عن تزوير الانتخابات أو المتورطين في هذه العملية وفي أعمال القمع العنيفة ضد المحتجين، وفي المقابل سيترافق أي تحرك مكلف على المجتمع والاقتصاد في بيلاروسيا مع نتائج عكسية.كذلك، يجب أن تتقبل أوروبا والقوى الغربية الأخرى فكرة أن تتابع بيلاروسيا الديمقراطية الجديدة اتكالها على روسيا اقتصادياً، في هذه المرحلة على الأقل، حيث يأمل الكثيرون أن تسهم الإصلاحات التي طال انتظارها لتحديث الاقتصاد البيلاروسي في تجديد توازن تلك العلاقة تدريجاً ضمن إطار عمل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.تابعت أرمينيا استضافة قاعدة عسكرية روسية خارج العاصمة "يريفان" بعد ثورتها الديمقراطية، فروسيا لا تتمتع بوجود عسكري مماثل في بيلاروسيا، لكنها تملك مصالح أمنية واضحة هناك، فضلاً عن وحدة جوية صغيرة ومنشأتَين استراتيجيتَين، وفي هذه المسألة الدفاعية وقضايا مشابهة لا تطرح تهديداً على أي طرف آخر، لا حاجة إلى تغيير الترتيبات القائمة.لا أحد يعرف طبعاً مدى استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتقبّل عملية انتقالية سياسية على الطريقة الأرمنية في بيلاروسيا، ولا شك أن البعض في أوساطه الداخلية سيرسل له تحذيرات هوسية حول مأزق محتمل قد يُمهّد لسيطرة الناتو، ولإعاقة مسار الجهات التي تدعو إلى حملات قمع وحشية منعاً لأي نوع من التقدم الديمقراطي، يجب أن يطبّق الغرب مقاربة دبلوماسية استباقية، فيوضح إصراره على دعم بيلاروسيا الديمقراطية التي تختار الحفاظ على روابطها الوثيقة مع روسيا.في النهاية لا يشير الوضع القائم في بيلاروسيا إلى صراع جيوسياسي، بل إنه شأن داخلي يخصّ الشعب البيلاروسي ونظاماً خسر شرعيته وفاعليته على جميع المستويات، وقد تساعد الجهود الدبلوماسية الغربية الشعب البيلاروسي على تحقيق طموحه الديمقراطي شرط أن تُنفَّذ طبعاً بطريقة حكيمة. * «كارل بيلدت»