تابوت الرقابة!
يحدث تبعاً للمعتقد الديني، أنه بعد موت إنسان ما، أن يُغسّل ويُجمّل ويُلبس أجمل ثيابه، ويُمدد في تابوت كي تُلقى عليه النظرة الأخيرة أو نظرة الوداع. وأحسب أن تمدد الرقابة في تابوتها، عندنا في الكويت قد تمدد كثيراً في الزمن. وأنا هنا أتكلم عن كويت التنوير، كويت الديمقراطية، كويت المدرسة الأحمدية، ورفض حاكم الكويت، الشيخ أحمد الجابر، طيب الله ثراه، لمبدأ الرقابة على المسرح، في مسرحية "إسلام عمر" عام 1938، وعن كويت مجلة البعثة، ومجلة العربي، وسلسلة عالم المعرفة، والمسرح والصحافة والتشكيل والمسلسل التلفزيوني، وعن كويت معرض الكتاب العربي، الذي انطلق في عام 1975. أتكلم عن كويت طبعت حضورها بوصفها منارة تنوير عربية، وجسراً عبرت من فوقه أجيال عربية كثيرة، نحو نور العلم والمعرفة والجديد. وأكتب أيضا، وبألم، عن كويت تأتي الآن تبعاً لرقابة كتبها لتكون في ذيل قائمة معارض الكتب في المنطقة العربية! في هذه الزاوية، وتحت عنوان "رقابة... لا يجوز!" كتبتُ بتاريخ 12 سبتمبر 2018: "حين مُنعت ثلاث روايات كويتية لكل من: د. سليمان الشطي، وسعود السنعوسي، وعبدالوهاب الحمادي، وكنتُ حينها أعمل مستشاراً ثقافياً لوزير الإعلام رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كتبتُ كتاباً بينت فيه موقفي المبدئي الرافض للمنع، وأشرت بشكل واضح إلى أن "العمل في إدارة الرقابة بات شيئاً من الماضي، وأنه أبعد ما يكون عن رتم وروح اللحظة الزمنية العابرة، ولا أظن أن موقفي قد تغيَّر"، وها أنا أكرر: "لا أظن أن موقفي قد تغيّر"، وسبب هذا القول هو "تعديل قانون المطبوعات بما يضمن التحول إلى نظام الرقابة اللاحقة بدلاً من الرقابة المسبقة"، وهذا يعني أنه بات بإمكان أي مستورد للكتب في الكويت، أو صاحب مكتبة أن يستورد كتباً، وأن يتعهد ويوقع على مسؤوليته الخاصة بأن هذه الكتب خالية من عبارات خادشة للحياء، وأنها لا تمس الوحدة الوطنية، ولا تتعرض للأديان، ولا الذات الإلهية ولا الذات الأميرية، ولا، ولا، ولا، ولا.. وفي حال اكتشفت الرقابة خلاف ذلك فعليه أن يبرئ نفسه أمام القضاء، أو يتحمل كل ما يترتب على "فعلته" حتى لو وصل الأمر للسجن! وكم يبدو هذا بعيداً كل البعد عن روح العصر الذي نحيا، وإغفال لمجريات اللحظة الإنسانية التي نعيش، حيث باستطاعة الشخص، حيثما كان، شراء واقتناء وقراءة أي كتاب، وهو مسترخ في بيته، وبضغط زر على الكمبيوتر.
إن التاريخ الكويتي، والثقافة الكويتية، والفكر والإبداع الكويتي، تستحق أكثر بكثير من إلغاء الرقابة المسبقة، وتستحق أن تكون الكويت في مكانها الثقافي الذي تستحق، وفي الصدارة؛ فما زال أي كاتب كويتي ملزماً بتمرير كتابه على الرقابة، والحصول على الفسح، وإلا فلن يُسمح بتداول وبيع كتابه في الكويت، وهذا يعني أنني إذا ما طبعت أحد كتبي في القاهرة أو بيروت أو دبي أو الرياض، ولم توافق الرقابة في الكويت على إجازته، فإنني سأُقرأ في طول وعرض أقطار الوطن العربي والعالم، إلا بلدي! وقد حصل أن أرسلت لي دار النشر الفرنسية التي تترجم كتبي (ACTES SUD) نسخاً مترجمة من روايتي "النجدي" وهي رواية تتناول سيرة النوخذة الكويتي علي ناصر النجدي، وقد أجازتها الرقابة وقت صدورها بنسختها العربية، إلا أن الرقيب في المطار رفض السماح لي باستلام نسخ الكتب، ما لم تمر على الرقابة الأجنبية، وتُقرأ وتُجاز بصورتها الجديدة كرواية فرنسية!!نعم، كل الشكر والتقدير للزملاء الأفاضل ومنْ عمِل معهم من أعضاء مجلس الأمة وخارجه لإلغاء الرقابة المسبقة على الكتب، لكن الدرب طويل، وهذه ليست إلا خطوة، نتمنى أن تتبعها خطوات كثيرة ليشرق وجه الكويت الأجمل دون أي رقابة! إلا رقابة الكاتب والقارئ، بوعيهما الإنساني والوطني.