خدم المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية جو بايدن مع أقرب مستشاريه في إدارة باراك أوباما، ولكن رؤيتهم في ميدان السياسة الخارجية كانت مستلهمة من عهد الرئيس الأسبق هاري ترومان.

وكان بايدن كتب مقالة في فورين أفيرز نشرت في وقت مبكر من هذا العام قال فيها "إن انتصار الديمقراطية والليبرالية على الفاشية والاستبداد أفضى الى خلق العالم الحر، ولكن هذا السباق لا يحدد ماضينا، بل مستقبلنا أيضاً"، وتلك عاطفة تستحق التوقف عندها، وبايدن الذي ولد عام 1942 كان طفلاً في ذلك العهد البطولي، وقد كبر في الخمسينيات من القرن الماضي عندما اضطلعت الولايات المتحدة بدور إنساني في صراع الغرب ضد الاتحاد السوفياتي، ثم شكل انهيار ذلك الاتحاد في عام 1989 نهاية السباق العقائدي للقرن العشرين، وقد عمل بايدن نائباً للرئيس أوباما وأسهم في ردع النزاع مع دول مستبدة مثل روسيا والصين وإيران.

Ad

أربعة أعوام فقط مرت على تلك الفترة، ولكن بايدن أقر في مقالته بأن ذلك المشروع فشل، كما أن النزاع مع الاستبدادية سيحدد المستقبل الأميركي لأن كل واحدة من تلك الدول اختارت طريق المواجهة مع الغرب ولأن الولايات المتحدة انتخبت في عام 2016 رئيساً سحق القوانين الديمقراطية في بلاده، وأهان الدول الديمقراطية الحليفة في الخارج، كما أغدق الثناء على الدكتاتوريين. وإذا فاز بايدن في سباق الرئاسة فسيرث أزمة تشبه أجواء زمن الحرب الباردة، وفي حقيقة الأمر أشار العديد من مستشاري بايدن في السياسة الخارجية الى وجود شبه يرجع الى هاري ترومان في هذا الصدد.

وقد طرحت على مستشاري بايدن في فريق السياسة الخارجية السؤال حول رؤيتهم للتغير الذي شهده العالم. وقال "كولن كاهل" الذي كان مستشار الأمن القومي لدى بايدن من 2014 حتى نهاية تلك الادارة إن "الأشياء الثلاثة التي تغيرت بجلاء تام هي: أن العالم أصبح أكثر ترابطاً بحيث غدت أكبر التحديات الوجودية التي نواجهها اليوم أخطاراً تتخطى الحدود القومية اضافة الى تراجع الديمقراطية في شتى أنحاء العالم ثم تغير توزيع القوة العالمية، وقد واكب ذلك عودة المنافسة بين القوى العظمى".

ترابط الأخطار

المعروف أن تلك الأخطار متداخلة، وكما أشار "كاهل" فإن أوباما حجب تطور لغة الديمقراطية ليس لكونه من شريحة المتبجحين الأميركيين فقط، إنما لأن الجدال كله ومنذ زمن استراتيجية الرئيس بيل كلينتون عن "التوسع الديمقراطي" تمحور حول كيفية ومدى قدرة الولايات المتحدة على استعراض قيمها الداخلية في الخارج. وكانت الرسالة الضمنية من حرب العراق كانت أقل مما كنا نظن وتكلفتها أكبر بكثير، وعلى الرغم من ذلك، افترض الجدال تفوقاً أميركياً، وديمقراطية أميركية.

وقد تهاوت تلك الأعمدة، وقال "كاهل" إن الأمر لا يتعلق بالجهد الليبرالي الرامي الى توسيع الديمقراطية بل بالسعي الى الدفاع عن الحدود القائمة للعالم الحر"، وتلك الحدود مهددة بمد الشعبوية داخل الدول الديمقراطية وفي الخارج بالحروب بالوكالة وفساد التسليح في روسيا وجهود الصين المتزايدة للتأثير لاستخدام قوتها الاقتصادية من أجل اعادة كتابة قوانين النظام العالمي، وكتب "كاهل" رداً على ذلك يقول "يتعين علينا حشد الدول الديمقراطية من أجل الحفاظ على ما لدينا".

وهنا يكمن التشبيه مع عام 1947 وهو العام الذي أعلن هاري ترومان فيه أن الولايات المتحدة ستهرع الى مساعدة الدول التي تحارب الطغاة لأن الانتهازية السوفياتية هددت الأمن القومي الأميركي، ولكن روسيا اليوم دولة وسيطة كما أن الصين، على الرغم من كونها أشد رهبة من أي دولة منافسة لأميركا في الماضي غير أنها تحصر دورها بشكل أساسي في الاقتصاد والدبلوماسية. والأكثر من ذلك، عرضت الولايات المتحدة تحت اسم محاربة الخطر القائم مساعدة الى الدكتاتوريين من جناح اليمين وأطاحت قادة تم انتخابهم بصورة ديمقراطية، وذلك ليس السجل الذي يمكن أن ينسب الى جو بايدن وبالتالي تقليده، غير أن واشنطن عززت أيضاً شبكات التحالفات والمؤسسات التي تعتمد قواعد القانون التي تحكم العالم من دون اليد الأميركية الثقيلة وعرضت نموذجاً لا يستطيع الطغاة تقليده.

حشد الديمقراطيات

السؤال الذي يطرح نفسه في الوقت الراهن هو ماذا يعني حشد الديمقراطيات من دون خوض حرب باردة جديدة؟ ومن دون التظاهر بحصول الولايات المتحدة على وضعية الهيمنة التي لا نزاع عليها والتي استمرت أكثر من 70 عاما في العالم.

وكان أول شيء لاحظه بايدن في مقالته في مجلة فورين أفيرز هو "تجديد الديمقراطية في الوطن" وانهاء الاعتداء على المهاجرين والأقليات والموظفين المدنيين وكل الأهداف التي ركز عليها الرئيس ترامب وأساء معاملتها، وتلك مشكلة لم يتعرض هاري ترومان لها وعلى الرغم من ذلك فإن الليبراليين من الحرب الباردة مثل هيوبرت همفري اعترفوا بأن الولايات المتحدة لم تتمكن من القيام بدور المدافع الموثوق عن القيم الديمقراطية الا عندما مارستها في الداخل الأميركي وعلى سبيل المثال من خلال اقرار تشريعات حقوق مدنية وعرض مكافأة سخية الى المهجرين، وهكذا مكنت الإصلاحات الداخلية من تحقيق الإصلاح في الخارج.

وماذا بعد ذلك كله؟ لقد تعهد بايدن بعقد "قمة لأجل الديمقراطية" في عامه الأول في البيت الأبيض، وتلك فكرة ارتبطت في الأعوام الأخيرة بالمحافظين الجدد الذين يريدون رؤية الانقسامات في العالم ضمن منظور عقائدي بدلاً من المنظور الجيوسياسي، ولكن المسار انتقل الى المركز، وفي العام الماضي انضم توني بلينكن وهو مساعد بايدن لشؤون الأمن القومي الى المحافظين الجدد ومنهم روبرت كاغان في الدعوة الى "عصبة" للديمقراطيات لا مجرد قمة فقط.

ويقول بلينكن إنه شعر بسعادة لرؤية نقاط تشارك في الرؤية مع كاغان، ولكنه أكد أنه لا يفكر في "حملة"، بل في عمل جماعي متوسط، وذلك لأن ديمقراطيات العالم النامي– مثل الهند والبرازيل– تشكل جزءاً من المشكلة، وليس الحل كما أن رؤية بايدن تتمحور حول أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا.

وما يفكر بايدن فيه ليس مؤسسة رسمية مثل حلف شمال الأطلسي بل منتدى أو صورة موسعة لمجموعة السبعة الكبار، حيث يستطيع الحلفاء الديمقراطيون طرح حلول مشتركة للمشاكل العابرة للحدود القومية التي تتمثل في انتشار الأوبئة أو الأمن السبراني أو تغير المناخ.

التوجه الجديد

وينطوي هذا التوجه الجديد على ميل جيوسياسي نحو أوروبا، وقد ترك الأمر إلى ألمانيا وفرنسا وعدد قليل من الدول الأخرى للوقوف في وجه روسيا والصين، وفي مقالة نشرتها أخيراً مجلة واشنطن مونثلي كتبت جولي سميث، وهي ضمن فريق مستشاري بايدن تقترح قيام الرئيس الأميركي الجديد بزيارة ألمانيا خلال أول 100 يوم من تسلمه السلطة "وإلقاء خطاب رئيس حول إعادة تحديد مفهوم الدفاع عن القيم الديمقراطية".

وتجدر الإشارة الى أن خطوة مماثلة سبق أن قام بها أوباما في شهر يونيو من عام 2009 خلال زيارته للقاهرة، ودعا فيها الى "بداية جديدة" بين الولايات المتحدة والإسلام، ولم يحصل أوباما من مغامرته في الشرق الأوسط على أي مردود سياسي.

وعلى الرغم من سعيه الحثيث الى التحول نحو آسيا لم يتمكن أوباما من الخروج من مستنقع الشرق الأوسط، وربما تتاح لبايدن فرصة أفضل في هذا المسار في حال فوزه في سباق الرئاسة الأميركية.

من جهة أخرى يعتقد بعض المحللين أن عصر الهيمنة الأميركية على العالم قد انتهى الى غير رجعة، ولكن بايدن يخالفهم الرأي، وهو يعتقد أن بلاده "أمة لا يمكن الاستغناء عنها" كما أن جاك سوليفان وهو مستشار السياسة الخارجية يرى أن التزام الولايات المتحدة بمبدأ المصلحة الذاتية يمكنها من قيادة العالم ودعا الى "استثنائية أميركية جديدة" لاستعادة مركزها في صدارة النظام الدولي، ولكن ذلك يبدو أقرب الى حلم اليقظة منه الى خطة عمل، وبعد كل شيء فقد أطلق أوباما الوعد نفسه بالتجديد واختار الشعب الأميركي استبداله بدونالد ترامب، كما أن جو بايدن ليس فرانكلين روزفلت وذلك طبعاً ما قاله الناخبون عن هاري ترومان اضافة الى استنتاجهم أن الولايات المتحدة لم تعد الدولة التي كانوا يتصورونها.

● جيمس تروب