شرع الله وشرع البشر (5)
الإجماع في العصر الحديثيقسم الفقهاء مصادر التشريع الإسلامي إلى مصادر متفق عليها: الكتاب والسنّة، ومختلف عليها: الإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وشرع من قبلنا وقول الصحابي... إلخ.لكن من يطلع على التراث الفقهي السنّي خاصة، يعجب لحجم اختلاف فقهاء السنّة، قديماً وحديثاً، حول المصدر الثالث للتشريع (الإجماع)، فقد استهلك الفقهاء القدامى والمعاصرون جهداً فكرياً هائلاً في الدفاع عن مبدأ "الإجماع" مفهومه، حجيته، وقوعه، في مواجهة المنكرين من الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى.
للإجماع تعريفات عدة يجمعها: "اتفاق جميع علماء الشريعة على حكم شرعي في عصر من العصور"، وهذا الإجماع يجب أن يكون صريحاً، فإذا تحقق فإنه يرتب حكمين شرعيين: الإلزام، وحرمة المخالفة، كالنص.لن أثقل على القارئ بتفاصيل يدرسها طلاب الشريعة والقانون، حول تحقق الإجماع من عدمه تاريخياً، بعد عصر الصحابة، ولكن يهمني، من هذه القضية، استنتاج الأمور الآتية:الأمر الأول: إذا كان جمهور الفقهاء رفعوا درجة الإجماع إلى رتبة المصدر الثالث للتشريع- بعد الكتاب والسنّة- وجعلوه يوازيهما في قوة الإلزام وحرمة المخالفة، والإجماع ما هو إلا اجتهاد جماعي بشري، أفلا يؤكد هذا إعلاء دور البشر في التشريع، وأن من حق المسلمين صياغة التشريعات المناسبة لمجتمعاتهم عبر العصور؟الأمر الثاني: هذه الأهمية التشريعية للإجماع، تؤكد أرجحية الرأي الجماعي على الرأي الفردي، وهذا أصل قاعدة "الأكثرية" في الفقه الإسلامي، ولهذا انتهى الشيخ محمود شلتوت والعديد من الفقهاء المعاصرين، إلى أن الإجماع في حقيقته، ما هو إلا "اتفاق الأكثرية" لأن الإجماعات التي نقلت من عهد الصحابة ما هي إلا "اتفاق الأكثرية"، أي اتفاق الصحابة الحضور منهم، فلا يشمل من كان خارج المدينة، لولاية يتولاها، أو جهاد يشارك فيه، أو تجارة يسافر لها، أو عمل ينشغل به.الأمر الثالث: إذا علمنا أن الإجماع بالمفهوم الأصولي الذي يعني: اتفاق جميع الفقهاء صراحة على حكم شرعي لواقعة مستحدثة لم ترد في القرآن أو السنّة، يستحيل تحققه واقعاً، كون الاختلاف في الأفهام والمدارك قانوناً إنسانياً وبيولوجياً وكونياً، بالنصوص المستفيضة، أفلا يكون الأقرب للحق والعدل والمنطق ورعاية المصالح العامة للمسلمين، أن تكون قاعدة "الأكثرية" أساساً للتشريع الملزم المتعلق بالشأن العام المجتمعي؟ الأمر الرابع: لقد بقي "الإجماع" الأصولي، بالصورة التي اشترطها الفقهاء، مصدراً تشريعياً معطلاً أو "افتراضياً" عبر التاريخ الإسلامي، وإن استثمر سلاحا سياسياً وعقدياً ومذهبياً في قمع الحرية الفكرية والدينية، ومصدراً لفتاوى تكفير وارتداد الخارجين فكرياً على السياق العام والمعارضين سياسياً (انظر: آمال قرامي: قضية الردة، توظيف حجية الإجماع في تكفير وارتداد المتجنس بجنسية أجنبية)، وهذا ما يدفعنا إلى تفعيله وتطويره اليوم.كيف نفعل دور الإجماع في العصر الحديث؟ إن تطوير مفهومنا لمبدأ الإجماع في العصر الحديث، يتطلب أن يتسع لندرك أن "الإجماع" اليوم ما هو إلا "التجسيد الشرعي" لقاعدة "الأكثرية" في التصويت البرلماني على التشريعات القانونية الصادرة من السلطة التشريعية، بديلاً عن الاجتهادات الفردية والمذاهب الفقهية القديمة. وهذا يفسح المجال أمام المشرع لاختيار الأنسب من الآراء الفقهية لاحتياجات مجتمعاتنا والأكثر انسجاماً مع روح العصر ومواثيق حقوق الإنسان، خاصة في مجالات: أحكام الأسرة وحقوق المرأة والعلاقة مع الآخر، فهو المقصود، بالطاعة لأولي الأمر "وأَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرسول وأولي الأمر منكم"، فطاعتهم تعني: طاعة أفراد المجتمع جميعاً للتشريعات الصادرة، بغض النظر عن مذاهبهم الفقهية.بهذا التفعيل لقاعدة الأكثرية في التشريع العام الملزم، نأخذ من مبدأ "الإجماع" الجانب الإيجابي فيه، قوة الإلزام، ونتفادى الجانب السلبي: تقييد حرية الفكر والتعبير وتقييد الأجيال اللاحقة وتحريم المخالفة. أخيراً: اعتماد الفقهاء الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة وغيرها، مصادر لأحكامهم الفقهية، يؤكد حق المجتمعات الإسلامية في التشريعات المناسبة لأوضاعها في إطار الثوابت المتفق عليها مجتمعياً.* كاتب قطري