جاسم النصرالله... ثقافة واسعة وقامة أدبية كويتية
عرفتُ الأديب جاسم النصرالله منذ ثمانينيات القرن الماضي في رابطة الأدباء الكويتيين، وزادت وتوثقت العلاقة أيضاً لأسباب أخرى، حيث درس وعمل في الهند خلال فترة أربعينيات القرن الماضي، وكان على معرفة وعلاقة طيبة مع والدي وعمي عبدالرحمن العبدالمغني اللذين كانا في الهند بتلك الفترة.
كان أستاذنا جاسم النصرالله يتردد على رابطة الأدباء الكويتيين باستمرار، فهو من الأعضاء القدامى المؤسسين، وكنت أنتهز كل لقاء لأسأله عن حياته ونشاطاته وأعماله وأسفاره، حتى تكونت لدي معلومات مستفيضة، رغم أنه يتحاشى المقابلات الصحافية والتصوير والظهور الإعلامي، إذ طبيعته التواضع والهدوء. ولن أطيل لأبحر معكم إلى بعض موانئ ومحطات الأديب جاسم عيسى عبدالعزيز النصرالله، وأديبنا من عائلة النصرالله الكويتية المعروفة، وكانت ولادته في البحرين عام 1912، لظروف انتقال وعمل والده هناك، والتحق وتعلم منذ طفولته المبكرة في مدرسة الهداية الخليفية بالبحرين، وهي إحدى المدارس المشهورة آنذاك، وكان الأديب الكويتي خالد الفرج أحد مدرسيها البارزين وتولى إدارة المدرسة لفترة من الزمن.بعد ذلك في عام 1934 سافر إلى الأحساء ودرس في أحد المعاهد العلمية، وكان يسمى «رباط الشيخ أبوبكر»، وكان من مرتادي هذا الرباط الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، والشاعر الأديب صقر الشبيب، وأمضى فيه النصرالله نحو خمسة أعوام دراسية.في عام 1939 عمل في شركة نفط البحرين، وبعد مضي عام، أي سنة 1940، سافر إلى مدينة بومبي في الهند، وكانت الهند تعتبر شريان الكويت الاقتصادي والتجاري، واستقبلت أفراداً وجاليات وأسراً كويتية كثيرة، فطابت له الإقامة في بومبي وأمضى فيها سبع سنوات تعلم خلالها اللغة الهندية الرئيسية (الأُردو) وعددا من اللهجات الهندية، كما درس الإنكليزية في «هاي سكول كُولدج»، وكرس وقته لدراسة أنماط الثقافة الهندية. وفي الوقت نفسه، اشتغل بالعمل التجاري، وكذلك بتدريس أولاد الجالية الكويتية اللغة الأم (العربية)، فهو أديب متمكن من ناحية اللغة والأدب والثقافة، ومن أبناء الجالية الكويتية الذين قام بتدريس أولادهم عائلة البسام والقاضي، وعائلة القناعات وأولاد الشيخ عبداللطيف العوضي، وآخرون.
عاد أستاذنا جاسم النصرالله إلى الكويت عام 1947، وعمل في شركة «حمال باشي»، وهي الشركة المسؤولة عن إدارة ميناء الكويت التجاري، وفي عام 1949 عمل في شركة نفط الكويت لمعرفته الجيدة باللغة الانكليزية، وبحلول عام 1950 وافتتاح أهم شارع في الكويت آنذاك، الذي سمي بالشارع الجديد، افتتح مدرسة لتعليم الطباعة على الآلة الكاتبة باللغة الإنكليزية والعربية، واتخذت المدرسة موقعاً مناسباً في الشارع ذاته، وكان قد استأجر المكان بمبلغ 30 روبية في الشهر، أي ما يعادل دينارين وسبعمئة وخمسين فلساً كويتياً، وأحضر عدداً من آلات الطباعة من الهند، وكان برنامج المدرسة على فترتين صباحية ومسائية، ومن أبرز تلاميذه السيد يعقوب الجوعان والسيد محمد علي الكليب والشاعر الأديب يعقوب الرشيد، وأمضى في إدارة المدرسة عدة سنوات، ثم بدأ العمل يخف تدريجياً لقلة الدراسين والراغبين في تعلم الطباعة لوجود وظائف أخرى ممتازة وأكثر دخلاً، فتم إغلاق المدرسة وباع آلات الطباعة على المكاتب التجارية بخسارة كبيرة، وعمل بمحكمة الكويت، التي كان يترأسها الشيخ عبدالله الجابر، حتى تقاعد عن العمل في عام 1971. الأستاذ جاسم النصرالله، أديب وشاعر، وأما من ناحية الأدب فلديه مكتبة ضخمة تمتلئ رفوفها بشتى أنواع العلوم والمعرفة، وقد انكب لنهل علومها وتذوق الأدب عن فهم ودراسة عميقة، وكثيراً ما كنت أسأله عن بعض الكتب القديمة ويخبرني أنها موجودة في مكتبته، وأهداني ذات مرة مخطوطاً قديماً لمعرفتة بجمعي لمثل هذه الكتب، فلك الشكر يا أديبنا الكريم والرحمة والمغفرة.أما من ناحية الشعر، فلديه أشعار بالفصحى يرتجلها، ومحورها يدور حول أمور الحياة ومعاناة النفس البشرية، وكذلك في الحِكم والعبر ودروس الحياة، وعندما كان يحتد النقاش بين الزملاء في رابطة الأدباء الكويتيين حول موضوع ما ينهي النقاش بعدد من أبيات الشعر تتعلق بصلب موضوع النقاش، وفيها من الحكمة والموعظة البالغة وإجابة مختصرة عن النقاش أو الخلاف الذي دار.وكذلك كان أديبنا جاسم النصرالله يحفظ المئات من أبيات الشعر لفطاحلة أرباب الشعر، ولا تخلو مناسبة أو حديث خلال التجمع الأدبي في رابطة الأدباء الكويتيين إلا تخلله أبيات من الشعر بما يتفق مع الموضوع، سواء هجاء أو مديحاً أو غزلاً عفيفاً، ويمتلك ثقافة واسعة ومعرفة بأسماء ومواضيع الكتب ودواوين الشعر، وخصوصاً القديم منها، كما يمتاز أديبنا بذاكرة حاضرة رغم كبر سنه، ويعتبر اكبر أعضاء الرابطة سناً، وحضوره كان مستمرا حتى سنة وفاته، حيث توفى بتاريخ ٦ نوفمبر من عام 2011 عن 99 عاماً.وقبل ختام هذه المقالة يعود طيف الذكريات إلى الأيام الجميلة، التي جمعتني في التسعينيات مع أستاذنا جاسم النصرالله في بحمدون المحطة بلبنان لعدة أعوام متتالية، وكان يفضل الجلوس بمقهى الأرلكان، لشاعرية المكان المطل على وادي لامارتين الشهير، وكانت جلسات مثمرة وذات فائدة أدبية، وعندما يحين وقت صلاة المغرب نذهب معاً للصلاة بمسجد الخرافي، وكثيراً ما كان يتغيب إمام المسجد اللبناني فيزكيه الموجودون للإمامة، ونعود مرة ثانية، إما للجلوس في مقهى آخر أو ممارسة رياضة المشي الخفيف وزيارة المكتبة الوحيدة التي في الشارع الرئيسي، ولاحظت أنه دائماً يوصي صاحب المكتبة بإحضار كتب له من بيروت باستمرار، وعرفت من سيرة حياتة حبه العميق للسفر والترحال، وقد زار دولاً عديدة ويحتفظ بدفتر قديم دون فيه مشاهداته وانطباعاته عن المناطق الأثرية والمتاحف وطبيعة البلدان والمواقف، التي حصلت له، وتمنيت لو كان طبَع ذلك في كتاب.الصورة بالمناسبة للأديب جاسم النصرالله أيام شبابه والتقطت في الهند عام 1940