مثّل قرار الهيئة العامة للقوى العاملة حظر إصدار إذن عمل لمن بلغ 60 عاماً فما فوق، من حملة شهادة المرحلة الثانوية العامة فما دون، نموذجاً جديداً للسياسات المنحرفة في معالجة ملف التركيبة السكانية في الكويت.ولطالما كان خلق الضرر من مقاصد المنفعة سمةَ الحلول المنحرفة في معالجة أي قضية. وعليه، فإن المطلع على معظم الحلول الحكومية والمقترحات النيابية الخاصة بالتعامل مع اختلال التركيبة السكانية يلمس انحرافاً عن معالجة أصل المشكلة أو سببها، والتركيز على بعض نتائجها أو أعراضها، وهو ما حدث بالفعل في العديد من الأمثلة، كرفع قيمة الرسوم الصحية على الوافدين دون معالجة ملف التأمين الصحي، والسعي لإقرار ضريبة على تحويلات الأموال، أو تحديد "كوتا" خاصة لكل جنسية في الكويت، بما لا يتجاوز 15 في المئة من إجمالي السكان، فضلاً عن مقترحات أخرى لا تخلو من العنصرية تسهل عمليات الإبعاد والترحيل للوافدين، حتى بسبب بعض المخالفات البسيطة.
بل إن هناك اعتقاداً خاطئاً بأن التضييق على حياة الوافدين في الكويت هو الحل للتركيبة السكانية، في حين يشير الواقع إلى أن هذه السياسات سيكون لها ضريبة على المجتمع كله؛ كالخدمات والتضخم، من التعليم والصحة إلى أقل الأعمال الحرفية البسيطة، فضلاً عن أن الحلول المفاجئة القاسية ذات أبعاد مختلفة عن المعالجات الاستراتيجية المبنية على خطط وبرامج تراعي البدائل وتعالج الانحرافات، وهو أمر يشير إلى اختلاف جوهري بين الحاجة لمعالجة التركيبة السكانية بكل ما تحمله من اختلالات اقتصادية، والطرح العنصري الذي يدمر أي معالجة مستحقة.
بيانات وأرقام
والمطلع على البيانات الإحصائية، التي تنشرها الهيئة العامة للمعلومات المدنية، يلمس بوضوح حجم الاختلال في التركيبة السكانية في الكويت، إذ تبلغ نسبة الكويتيين 29.9 في المئة فقط، من أصل 4.776 ملايين نسمة، العدد الإجمالي لسكان البلاد، في حين يبلغ عدد الوافدين 3.344 ملايين شخص، منهم 745 ألفاً تحت بند "العاملين في المنازل"، أي بنسبة 22.2 في المئة، ومعظمهم لدى الأسر الكويتية، في حين تبلغ نسبة العاملين الكويتيين في القطاع الخاص 4 في المئة فقط، وفي القطاع الحكومي 74 في المئة، أما على صعيد توزيع العاملين الكويتيين على سوق العمل فهو 80 في المئة بالقطاع العام و20 في المئة في "الخاص"، كذلك تعطي البيانات فكرة عن مجتمع العزاب في الكويت، عبر بلوغ الذكور نسبة 70 في المئة من اجمالي العمالة الوافدة في الكويت.وبمزيد من التفاصيل، نجد أن تدني المستوى التعليمي والمهني للعمالة الوافدة يمثل واحداً من اهم اختلالاتها، إذ تصل نسبة عديمي التعليم او المستويات التعليمية الدنيا منهم الى 70 في المئة، بل إن معظمهم في المهن الفنية والحرفية لم يسبق لهم التدريب او العمل في مهنهم الجديدة إلا داخل الكويت، وهذه الأرقام اذا نظرنا اليها من زاوية النمو المستقبلي تنذر بمزيد من الاختلال، ليس فقط في نسبة التركيبة السكانية بل أيضا من جهة جودة ومهارة العمالة الوافدة في الكويت، لاسيما إن كانت الحلول الخاصة بالأزمة منحرفة وذات منطلقات عنصرية وغير فنية.إحلال وإقامات
ولعل بداية الحل لمسألة اختلال التركيبة السكانية يمكن حصره في جانبين؛ الأول تطبيق خطة إحلال للعمالة الوطنية محل الوافدة، خصوصا في القطاع الخاص، لاسيما شركات المقاولات والعقود التي تتعامل مع مناقصات الدولة النفطية والإنشائية والخدمية، وهذه تحتاج الى إعادة العمل بالدور، الذي قامت عليه فكرة إنشاء الكليات التطبيقية والمعاهد الفنية لربط احتياجات سوق العمل بعمالة وطنية تقلل من الاعتماد على نظيرتها الوافدة، عبر برامج الإحلال التدريجي للمهن في الشركات والمصانع وغيرهما، كما فعلت دول خليجية؛ أبرزها السعودية وعمان، في إلزام مؤسسات القطاع الخاص بسياسات التوطين على مدى زمني محدد، فضلاً عن أنها تمثل جزءاً من معالجة ملف التعامل مع 400 ألف فرصة عمل مطلوبة، خلال 10 سنوات قادمة تمثل جانبا آخر من اختلالات الاقتصاد الكويتي على صعيد سوق العمل.أما الجانب الثاني، فيتلخص في التعامل مع درس أزمة كورونا فيما يتعلق بخطر تجارة الاقامات في الكويت، وكل ما يتفرع عنها من بيئة غير صحية ولا إنسانية للعمالة الوافدة، مع التركيز على معالجة أو إلغاء نظام الكفيل والتأكد من فاعلية نظم الحد الأدنى للأجور وإلغاء القيود على تغيير الوظيفة، كما فعلت دولة قطر مؤخرا وإنشاء مدن العمال ومحاربة تجارة الاقامات كجريمة اقتصادية وإنسانية، للحد من العمالة الهامشية والسكن المخالف للاشتراطات الأمنية والصحية والإنسانية. وعليه، سيكون مدخلاً لتعديل التركيبة السكانية، مما سينعكس إيجاباً على جودة الاقتصاد، باعتبار هذا الملف أحد اختلالاته، وسيمتد الأثر على الدولة إيجاباً، ليس فقط على توفير الجانب المالي، بل على جوانب مهنية وصحية وأمنية متعددة.مشاريع غير واقعية
لا تنحصر أزمة التعامل مع ملف التركيبة السكانية بمجرد انحراف حكومي أو شعبوية نيابية، بل بمشاريع غير واقعية لا تناسب طبيعة التحدي، ومنها التوجه الحكومي لقلب التركيبة السكانية لتصبح 70 في المئة مواطنين مقابل 30 في المئة وافدين، وهو ما يعني خفض عدد الوافدين في الكويت من الناحية النظرية من 3.344 ملايين وافد إلى 440 ألفا فقط، مع أن عدد العمالة المنزلية وحده يفوق هذا الرقم بحوالي 310 آلاف عامل منزلي، فضلاً عن العودة للأسلوب القديم غير المنتج في التعاطي مع اللجان -ومثلها في تاريخ مجلس الوزراء ما لا يعد ولا يحصى- التي تؤجل المشكلة أكثر مما تجد حلاً لها.