المشهد المائي في العالم العربي، لا يسر صديقاً ولا تخطئه العين.ضع أمامك خريطة جغرافية وتأمل فيها جيداً، فسترى أن الدول التي تجري فيها الأنهار، كالعراق وبلاد الشام ومصر، يقام خلفها سدود، تتحكم فيها دول المنبع، مثل إثيوبيا وتركيا وإيران وإسرائيل، في حين الدول التي تطل على البحار، كالخليج العربي والبحر الأحمر والمتوسط تنعم بالمياه!
دول تشرب من مياه البحر ودول تفتقر لها بل تعاني العطش والجفاف بالرغم من نعمة الأنهار والأمطار! ففي ولاية الخرطوم قرى بأكملها غمرتها مياه الفيضانات مثلما تعرضت نصف مدينة أم درمان بالمياه الآتية من النيل الأزرق، حصدت 88 قتلاً و382 ألف شخص من المتضررين، وتسجل أعلى منسوب لها منذ 100 عام، في الوقت الذي تخرج فيه الجماهير بأديس أبابا إلى الشوارع ابتهاجاً بالملء الثاني "لسد النضهة العظيم" ورئيس وزرائها يطلق العنان للوجه العدائي لمصر وللسودان وبشكل استفزازي رافعاً شعار، وها قد عاد النيل الأزرق لنا! عرب الأنهار والزراعة محاطون بسلسلة من الدول استفردت بالثروة المائية وتعاملت معها من منطلق "سيادي" ولا تعترف بالقوانين الدولية والمواثيق ذات الشأن والخاصة بتنظيم مياه الأنهار العابرة للحدود. نحن على مشارف التسعينيات وفي الشهر الذي دشنت فيه تركيا ملء خزانات سد أتاتورك، التقيت بمدير "مشروع" الغاب، وسألته: لماذا التمادي بقطع المياه عن بلدين مجاورين لكما يشتركان بمجرى النهر؟ أجاب: لكم نفطكم ولنا مياهنا؟ حاولت أن أستوضح الأمر فقال: هل تتشارك مع الكويت والإمارات دول أخرى بإنتاج النفط أو بالكمية المستخرجة أو بالعائد المادي لبيعه في الخارج؟ فأجبته بالنفي باعتبار أن هذه ثروة نفطية تحت الأرض وحق سيادي للدولة، فقال: نحن نطبق المبدأ نفسه! خلاصة الحوار أن تركيا، كما هو شأن إيران وإثيوبيا وبالتبعية إسرائيل، تتصرف بمياه الأنهار العابرة للحدود على أساس "سيادي" وبالتالي، تبني السدود كيفما تشاء وتتحكم بالمياه كيفما يحلو لها، دون أي اعتبار للأطراف المتشاركة معها! في المعركة التي دارت بين إثيوبيا ومصر وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة خسرت أم الدنيا الجولة ولم تستطع أن تفرض أي معادلة من شأنها حفظ حقوقها المائية التاريخية، إما كاتفاقيات سابقة ملزمة وإما من حيث قوانين البحار والأنهار الدولية التي يتم الاحتكام إليها، فقد انتهت المنازلة حتى الآن دون أي التزام إثيوبي بحصة مصر والبالغة 55 مليار متر مكعب! والسيناريو نفسه شاهدناه بين تركيا وسورية والعراق، أيام سد أتاتورك، أكملت أنقرة في عهد تورغوت أوزال مشروعها دون أي اعتبار للحصص المائية من دجلة إلى جيرانها. إدارة معركة المياه عند الطرف العربي تنتهي غالباً بالخسارة والتسليم بالأمر الواقع، واليوم تدار معركة جديدة بين العراق وإيران ليست بعيدة عن معارك المصريين أو الأردنيين والسوريين والفلسطينيين مع إسرائيل، ففي شهر أغسطس الماضي استمرت طهران بقطع حصة العراق من المياه، دون أن تسمح لها بالدخول لنهري دجلة والفرات خصوصاً في محافظتي ديالى والسليمانية، فأقدمت على قطع واردات نهري "سيروان" و"الزاب" بالكامل وتعريض عشرات ألوف المواطنين العراقيين للخطر!وبحسب تصريحات وزير الزراعة السابق، فلاح الزيدان فإن إيران تقوم كل صيف بخزن الروافد التي تغذي "نهر الزاب" بالمياه في سدود تم إنشاؤها منذ سنوات، بالطبع قطع المياه سيتسبب بضرر كبير للقرى التي تعيش عليه وللمحاصيل الزراعية والتي تعتمد بالكامل على الري. الأخطر من القطع الموسمي الذي تقدم عليه إيران أنها لا تلتزم بالرغم من العلاقات التي تدعي طهران حرصها عليها ببنود اتفاقية الجزائر لعام 1975 وتحديد كيفية التصرف بـ42 نهراً وواديا، تخلت عنها وباتت بحكم المعطلة منذ عام 1980.الواقع أن "الحالة المائية" للعراق مع تركيا لا تختلف كثيراً عن إيران من حيث تداعياتها الكارثية على حياة الناس واستقرارهم، فتركيا قطعت أشواطاً لا بأس بها بملء خزان سد "أليسو" وسيكون له تأثيرات سلبية واضحة في السنوات القادمة نظراً لحاجتها لقطع المياه عن العراق، وهذا ما دفع عضو البرلمان، جمال فاخر الممثل عن الأهوار، إلى الطلب بإقامة دعوى في الأمم المتحدة على تركيا بسبب التلاعب بالحصة المائية المقررة وفق القانون الدولي! وبالرغم من "المذكرات" الموقعة بين البلدين فإن مشكلة ضمان حقوقها المائية مع كل من إيران وتركيا بقيت حبراً على ورق، وهناك مساع عراقية ومحاولات دؤوبة مع الجارين المستبدين، لإلزامهما بتحديد حصته من المياه، لكنها تصطدم بالتسويف والمماطلة! واقع العلاقة مع أنقرة، مرهون بالانتهاء من بناء السدود تماماً كما هي الحال مع طهران وسيبقى الوضع المائي في حالة مد وجزر في ظل غياب أوراق للضغط حقيقية وقدرة على إلزام تلك الدول بمعاهدات دولية من شأنها عدم اللعب بالمياه والأنهار العابرة للحدود.
مقالات
بين «عرب الأنهار» و«عرب البحار»
03-09-2020