سليمان المسند فتَح خزانة البنك الوطني في 1952
تعود الذاكرة إلى مرحلة أواخر الخمسينيات، وأثناء مروري مع والدي بـ"سوق واجف" في مدينة الكويت القديمة، كان يشد انتباهي محل متخصص في بيع المفاتيح المستعملة، ويستوقفني أكثر صاحب المحل البالغ من العمر أكثر من تسعين عاماً آنذاك، ويعمل في محله بهمة ونشاط، وهو بهذا السن الكبيرة، وكان معروفاً لدى أهالي الكويت باسم "أبومسند"، ولا أعتقد أن أحداً من جيلي أو ممن سبقوني في السن لا يعرفه، فهو من الأوائل في الكويت الذين كانوا متخصصين في بيع المفاتيح وتصنيعها بمختلف الأشكال والأحجام، وكذلك تصليح "الكوالين" التي على الأبواب!ضيفنا في حلقة اليوم هو سليمان مسند عبدالعزيز المسند، ولد في إحدى قرى نجد عام 1863، ثم نزح إلى الكويت عندما بلغ عشر سنوات، واستقرت أسرته بمنطقة القبلة بالقرب من مسجد "بن حِمْد" في "فريج المهارة"، ثم انتقل إلى بيت آخر جنوب المقبرة القبلية في "فريج شاوي اظبيه"، وكانت حاجته ماسة في طلب العيش الشريف، فركب البحر في شبابه المبكر وعمل "غواصاً"، فأهل نجد لم يمارسوا ركوب البحر في حياتهم قط بسبب بُعد المسافة التي تفصله عنهم، ولكن الحاجة أجبرتهم على ذلك!عند افتتاح القنصلية البريطانية في الكويت عام 1904 وقدوم أول قنصل بريطاني "نوكس"، وافتتاح مكتب البريد الذي بداخل القنصلية، عمل أبومسند في توزيع البريد على مكاتب التجار، ويستلم بنفس الوقت الإرساليات البريدية من التجار لتسليمها لمكتب البريد، لذا فهو يعتبر أول ساعي بريد كويتي!
شارك أبومسند في بناء السور الثالث للكويت، وعند الفزعة للمشاركة في حرب الجهرا قيل له أنت رجل كبير في السن ولا تقوى على حمل السلاح الثقيل، وكان مع الذين صمدوا بداخل المدينة وأخذ له مكاناً مناسباً يترصد الأعداء من إحدى فتحات "الغولات" العالية المنتشرة على امتداد السور لحماية المدينة!بعد ذلك افتتح له محلاً، كما ذكرت، عند مدخل "سوق واجف"، لبيع وتصنيع وتصليح المفاتيح و"الكوالين"، وكان الكويتي الوحيد الذي يعمل بهذه المهنة، وأصبحت له شهرة واسعة في المجتمع الكويتي بالماضي! ومن الحكايات الظريفة التي رواها لي أخونا العزيز الأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، عندما افتتح بنك الكويت الوطني مقره الأول في عام 19٥٢ في شارع الجديد؛ كانت أموال البنك مودعة في خزانة حديدية كبيرة (تجوري)، وفي ظرف ما أضاع مدير البنك الإنكليزي مفتاح "التجوري"، وتعذرت كل السبل لمحاولة فتح الخزينة، بالإضافة إلى عدم العثور على مفتاح بديل... فكيف يستطيع البنك مزوالة أعماله بهذا الوضع؟ سوف تتعطل مصالح زبائن البنك بلاشك!فلم يكن من سبيل إلا استدعاء أبومسند للقيام بهذه المهمة، وعندما جاء وشاهده مدير البنك الإنكليزي في هيئته البسيطة المتواضعة، أشّر بيده في حركة يفهم منها إبعاده، خوفاً من إتلاف مكان دخول المفتاح، وحينئذ تتفاقم المشكلة أكبر مما عليه!وحدثت مفاجأة؛ عندما أُخبر بالمشكلة المرحوم خليفة خالد الغنيم، وحضر في الحال، وهو بالمناسبة أحد المؤسسين للبنك، وقال: ليفتح الخزانة (التجوري) أبومسند، وعلى مسؤوليتي!كان أبومسند قد أحضر معه أدواته الخاصة، وبدأ يدخل بعض المفاتيح برفق ويضع أذنه على "التجوري" ليستمع إلى حركة المفتاح بالداخل ويخرجه لحك أسنان المفتاح بالمبرد، ويعيد الكرّة مرة ثانية، حتى تمكن من فتح خزانة البنك، وأنجز ما طلب منه، فصفق كل الموجودين تقديراً له، وتسلّم مكافأة مقدارها مئة روبية!المهنة التي اشتغل بها أبومسند واحدة من عشرات المهن، التي زاولها أهالي الكويت في الماضي بأنفسهم، دون الاعتماد على الغير، وهي دلالة على أن المجتمع يعتمد على ذاته وقدراته وأفكاره وابتكاراته بنفسه!ذهبت تلك المهن مع الريح، وجرفها بريق الحضارة الزائف، ويظل أبومسند رمزاً من رموز التراث الكويتي!الصورة من إهداء أخي وزميل الطفولة محمد عبدالله الداحس، وهي لجده أبومسند عام 1969 في أواخر أيامه، ويبدو بالقرب من سيارته. وأدركته الوفاة بتاريخ 7 سبتمبر 1969 عن 106 أعوام، رحمه الله بواسع رحمته.