لماذا تدعم الصين موسكو في بيلاروسيا؟
تتابع الأزمة السياسية التي اندلعت في بيلاروسيا غداة الانتخابات الرئاسية في 9 أغسطس تطورها بطريقة غير متوقعة، فتطرح تحدياً هائلاً على روسيا وتُصعّب عليها الرد على الأحداث المتلاحقة. يواجه الرئيس ألكسندر لوكاشينكو تظاهرات حاشدة من جانب محتجين يزعمون أن نتائج الانتخابات الرسمية التي أسفرت عن فوز الرئيس بنتيجة ساحقة كانت مزورة، ولا تزال تداعيات الأزمة غير مؤكدة، ففي حين تراقب روسيا هذا الوضع المتقلّب وتُقيّم خياراتها لرسم مستقبل البلد، يمكنها أن تتوقع تلقي الدعم من الصين التي سارعت إلى توسيع مصالحها الخاصة في بيلاروسيا.في السنوات الأخيرة، تدهورت علاقات الصين وروسيا مع الغرب لكنهما عمدتا إلى تقوية روابطهما الثنائية، إذ لا ترتقي هذه العلاقة إلى مستوى التحالف السياسي والعسكري الشامل لأن البلدين يحاولان تجنب الانجرار إلى الصراعات الإقليمية التي يخوضها كل طرف منهما، ومع ذلك يدعم كل بلد مواقف الطرف الآخر في تلك الخلافات، ومن المتوقع أن يستمر هذا النمط في بيلاروسيا حيث تتماشى مصالح الصين في معظمها مع مصالح روسيا.يتمحور الهدف الروسي الأولي في بيلاروسيا حول تجنب اندلاع أي «ثورة ملوّنة» تُمهّد لنشوء حكومة جديدة وموالية للغرب تسعى إلى ترسيخ علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، إذ تدعم الصين روسيا بالكامل في هذا التوجه، وقد انضمّت إلى موسكو أيضاً في معارضتها للثورات الملونة في أماكن أخرى من بلدان الاتحاد السوفياتي السابقة، كذلك تؤيد الصين دعوة روسيا إلى عدم تدخل الاتحاد الأوروبي وأي جهات خارجية أخرى في الأزمة الراهنة، وفي غضون ذلك تُركّز المصالح الصينية في بيلاروسيا على الاستثمارات الحديثة في البلد كجزءٍ من «مبادرة الحزام والطريق».
أعطت روسيا موافقتها على هذا المشروع وقد اتضح موقفها في اتفاق أُبرم في عام 2015 لربط «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير» والعنصر القاري في «مبادرة الحزام والطريق» مع «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي»، أي مشروع الاندماج الإقليمي الذي تقوده موسكو وتنتسب إليه بيلاروسيا.حتى اليوم، لم تُسبّب استثمارات الصين في بيلاروسيا أي مشاكل على مستوى علاقاتها مع روسيا، وكجزءٍ من الحسابات الكامنة وراء الدعم الروسي لـ«مبادرة الحزام والطريق»، سعت موسكو إلى جذب الاستثمارات الصينية لصالح مشاريع البنى التحتية في أراضيها، حيث يمكن اعتبار الاستثمارات الصينية في بيلاروسيا مفيدة لروسيا في هذا الإطار لأنها قد تقنع الصين بإنشاء ممر نقل شمالي يعبر في الأراضي الروسية ويمرّ ببيلاروسيا ويصل إلى أوروبا، ومن مصلحة الصين أن تحافظ على دعم موسكو لـ«مبادرة الحزام والطريق» نظراً إلى حساسية روسيا المحتملة تجاه فكرة توسّع النفوذ الصيني في الأراضي السوفياتية السابقة، وفي المقابل قد تقتنع روسيا بأن مشاركتها في أي ممر شمالي للنقل تزيد تأثيرها على مسار تطوير «مبادرة الحزام والطريق».في السنوات الأخيرة بدا وكأن الوضع في بيلاروسيا يصبّ في مصلحة الصين، فغداة اندلاع الأزمة الأوكرانية، حاول لوكاشينكو أن يوسّع خياراته في مجال السياسة الخارجية للحد من اتكاله على روسيا. كجزءٍ من هذه الجهود، لم يكتفِ بمحاولة تحسين علاقات بلده مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فحسب، بل سعى أيضاً إلى جذب الاستثمارات الصينية، فقد رحّبت الصين بهذه الفرصة لأن الأزمة في أوكرانيا، ذلك البلد الذي كان سابقاً محور تركيز الجهود الصينية للربط بين «مبادرة الحزام والطريق» وأوروبا، أجبرت الصين على تعديل خططها. هكذا أصبحت بيلاروسيا نقطة التركيز الجديدة، فساهمت مبادرات لوكاشينكو تجاه الغرب في تحسين فرص الصين وتشجيعها على استعمال «مبادرة الحزام والطريق» للدخول إلى الأسواق الأوروبية، وفي حين راح لوكاشينكو يُطوّر علاقاته مع قوى أخرى، حافظ في الوقت نفسه على علاقات مقبولة وفاعلة مع روسيا، ولو أن تلك الروابط بقيت متوترة جداً، فكانت روسيا من جهتها تعتبر الرئيس البيلاروسي حصناً منيعاً ضد إعادة توجّه بيلاروسيا بالكامل نحو الغرب، مع أنه قاوم الاندماج الوثيق مع روسيا وحاول التقرب من العالم الغربي.كانت هذه الظروف مثالية من وجهة نظر الصين، لكنها انتهت بشكلٍ مفاجئ اليوم، حتى لو تمسّك لوكاشينكو بالسلطة، فلا مفر من تضرر علاقاته مع الغرب، حيث يستعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لفرض العقوبات على نظامه بسبب حملة القمع الوحشية التي أطلقها ضد المحتجين، وأجبرت هذه الأزمة لوكاشينكو على البحث عن الدعم الروسي، مما يعني أنه سيصبح مديناً لموسكو إذا بقي في منصبه.هذا المنحى من الأحداث لا يرضي الصين، فقد كان الرئيس شي جين بينغ من أوائل القادة الخارجيين الذين حرصوا على تهنئة لوكاشينكو على فوزه المعلن، مما يثبت أن الصين تفضّل الحفاظ على وضع المراوحة، لكن عاد المسؤولون الصينيون وأطلقوا بعض الملاحظات العامة حول الأزمة المتفاقمة لاحقاً، وبغض النظر عن التطورات الحاصلة، سيحاول القادة الصينيون حتماً أن يحموا استثمارات «مبادرة الحزام والطريق» في بيلاروسيا. وتواجه بكين بيئة معقدة في بيلاروسيا اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك يملك القادة الصينيون سبباً وجيهاً للاقتناع بأن المسار الذي تختاره روسيا، وفق معظم السيناريوهات المحتملة، سيتماشى مع الأهداف الصينية على افتراض أن روسيا تستطيع السيطرة على الأحداث. وفق أحد السيناريوهات المتوقعة، قد يبقى لوكاشينكو في السلطة عبر حملات القمع التي يطلقها نظامه ضد الحركة الاحتجاجية، فلا مفر من أن يزيد اتكال البلد على روسيا نتيجة تفكك علاقات بيلاروسيا مع الغرب في المرحلة اللاحقة، وستتقبل الصين هذا النوع من النتائج، إذ يصعب أن تنجح أي ثورة ملوّنة في المرحلة المقبلة وسيتابع القادة الصينيون التعامل مع أي زعيم بيلاروسي يرحّب بالروابط الثنائية الوثيقة بين البلدين ويَعِد بحماية الاستثمارات الصينية. يضمن الدعم الروسي الموعود لـ«مبادرة الحزام والطريق» ألا يطرح تنامي نفوذ موسكو في بيلاروسيا أي تهديد على الاستثمارات الصينية هناك، لكن من الناحية السلبية، قد ينعكس تفكك العلاقات بين بيلاروسيا والغرب سلباً على الجهود الصينية الرامية إلى جعل بيلاروسيا جسر عبور نحو أوروبا ضمن «مبادرة الحزام والطريق»، كذلك قد يكون هذا الوضع كفيلاً بإطالة ظروفٍ غير مقبولة، ما يُمعن في زعزعة استقرار المنطقة مستقبلاً.وفق سيناريو محتمل آخر، قد تقنع روسيا لوكاشينكو بتقديم استقالته وتعرض عليه خطة تقاعد مريحة وتضمن سلامته الشخصية، حيث ستقوم موسكو حينها بالمناورات اللازمة لاستبدال نظام لوكاشينكو بحكومة جديدة تَعِد بالحفاظ على التقارب مع روسيا وترفض أي نوايا بتوسيع العلاقات مع المؤسسات الغربية، لكن لن يكون تحقيق هذا الهدف سهلاً، فقد حرصت المعارضة في بيلاروسيا على عدم طرح نفسها كحركة موالية للغرب، لكنّ مطالبتها بالديمقراطية تثير الشكوك في موسكو حيث يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصلاً حركات احتجاجية في مدينة «خاباروفسك» في أقصى الشرق الروسي ويتعرّض للتدقيق على خلفية تسمّم زعيم المعارضة الروسية ألكسي نافالني. وإذا نجحت الجهود الروسية في هذا الإطار، فقد تقبل الصين بهذه النتيجة شرط أن تبقى استثماراتها في بيلاروسيا آمنة، ورغم وجود معارضة محلية معينة ضد توسّع الوجود الصيني، فمن المتوقع أن يحرص أي نظام مقبل على دعم تلك الاستثمارات الصينية نظراً إلى المنافع الاقتصادية التي تقدمها لبيلاروسيا.تختلف الأزمة القائمة في بيلاروسيا عن الخلافات التي نشأت سابقاً بعد الحقبة السوفياتية، فقد اكتفت الصين في تلك المرحلة بتقديم دعم محدود لروسيا، فقد كانت الصين تدعم موسكو بشكل عام في حربها ضد جورجيا لكنها رفضت الانضمام إليها للاعتراف بسيادة المنطقتَين المنفصلتَين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ورغم تعاطف الصين مع الرأي الروسي حول أصل الصراع في أوكرانيا، امتنع القادة الصينيون عن دعم روسيا في مساعيها لضم شبه جزيرة القرم، وفي الحالتَين معاً التزمت الصين إذاً بمبدأ سيادة الدول.في ظل الأزمة الراهنة وتحرك المعارضة للمطالبة بالديمقراطية، من المستبعد أن تحاول موسكو تفكيك بيلاروسيا أو الاستيلاء عليها، كذلك من غير المنطقي أن تُجبِر بيلاروسيا على تنفيذ أحكام «معاهدة دولة الاتحاد» التي صدرت في عام 1999 وتتصور نشوء اتحاد سياسي متماسك بين البلدين، لكن يقضي سيناريو محتمل آخر بتدخل قوات الأمن الروسية لحماية سلطة لوكاشينكو أو تغيير مسار الأحداث في بيلاروسيا. طرح بوتين هذا الاحتمال في الأسبوع الماضي حين أعلن أن كتيبة روسية من قوات الأمن باتت مستعدة للتدخل دعماً للوكاشينكو في حال خرجت الاحتجاجات عن السيطرة، ومن المتوقع أن يدعم القادة الصينيون هذا النوع من التدخل، في أوساطهم الخاصة على الأقل، لا سيما إذا حصلت هذه العملية بطلبٍ من لوكاشينكو شخصياً، وبغض النظر عن المخاوف التي يحملها القادة الصينيون حول مخاطر هذه المقاربة، من المستبعد أن يوجهوا أي انتقادات علنية لروسيا، حتى أنهم قد يقدمون لها دعماً ضمنياً على الأقل إذا أدى التدخل المرتقب إلى نتيجة ترضيهم.إذا أثبتت روسيا عجزها عن السيطرة على الأحداث في بيلاروسيا، فقد تسعى الصين، بأكثر الوسائل براغماتية، إلى إقامة علاقات بنّاءة مع أي حكومة ناشئة في «مينسك»، لكن من وجهة نظر بكين، يصبّ أي حل للأزمة الراهنة في مصلحة الصين إذا حصل على موافقة روسيا أيضاً، ورغم نشوء بعض التصدعات المحتملة في العلاقات الصينية الروسية غداة تفشي فيروس كورونا، من المتوقع أن تسير أزمة بيلاروسيا على خطى التعاون الوثيق الذي نشأ بين البلدين في السنوات الأخيرة.● براين ج. كارلسون