جمهورية إيران الإسلامية دولة منقسمة، إذ تدير المؤسسات المُنتَخبة شؤون الدولة اليومية وتعمل في ظل المنصب الأقوى الذي يشغله المرشد الأعلى وترضخ المؤسسات الأمنية لأوامره، بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني. على مر أكثر من عشرين سنة، وجد الإصلاحيون داخل المؤسسة السياسية الإيرانية صعوبة كبرى في ترسيخ سلطة المؤسسات المُنتَخبة في وجه سلطة الدولة الموازية. اليوم، يعترف هؤلاء بفشل ذلك المشروع ويتحضّرون لاستيلاء قادة الدولة الموازية على الهيئات الانتخابية وتوسيع نطاق سلطتهم.لم يعد نشوء حكومة عسكرية مرتقبة في إيران استنتاجاً محتملاً بل أصبح هذا الخيار الأقرب إلى الواقع. يشعر الإيرانيون بالإحباط في ظل انتشار الاضطرابات بين الأحزاب وتفاقم الأزمات. أدت العقوبات الأميركية إلى استنزاف شريان الحياة الاقتصادي في إيران، فتراجعت القوة الشرائية بنسبة الثلثين مقارنةً بما كانت عليه منذ عشر سنوات، مع أن هوس الرأي العام بتجميع الثروات توسّع بدرجة فائقة. كذلك، تُمهّد مشاعر البغض والكبرياء المجروح لدى الإيرانيين لنشوء نوعٍ جديد من النزعة القومية لأنهم يعجزون عن اكتساب المكانة الدولية التي يستحقونها.
يعجز الرئيس حسن روحاني عن تنفيذ وعوده الداخلية والخارجية ويبدو أنه خضع للأمر الواقع ويتّضح ذلك من طريقة تعامله مع أزمة فيروس كورونا في الفترة الأخيرة. لقد تردد في اعتبار الفيروس المستجد تهديداً وطنياً إلى أن فات الأوان على ذلك، وكانت رسائله المتناقضة عن هذا الموضوع كفيلة بإرباك الرأي العام، حتى أنها عرّضت المرشد الأعلى للانتقادات. في المقابل، يسيطر الحرس الثوري الإيراني على الوضع بقوة ويُحكم قبضته على السلطة مع مرور الوقت. لكنّ طبيعة صلاحياته قد تمنع تحوّله إلى وصيّ على الدولة.
بين الخوف والحب
أصبح الحرس الثوري الإيراني محط تركيز الأوساط الوطنية والدولية بدءاً من أواخر التسعينيات، حين سيطر الإصلاحيون السياسيون على الحكومة الإيرانية المُنتَخبة. بدأت وسيلة إعلامية إصلاحية شائعة تراقب الحرس الثوري عن قرب وتنتقده. رداً على ذلك، سعى الحرس إلى تأسيس وسيلة إعلامية خاصة به في محاولةٍ منه للسيطرة على الخطاب العام وطرح صورة مبالغ فيها عن نفسه.يعتبر الحرس الثوري الإيراني نفسه علاجاً للاضطرابات الوطنية الإيرانية مع أنه جزء كبير من المشكلة. تؤدي مغامراته الإقليمية إلى تراجع فرص تحقيق تنمية مستدامة ومستقرة. وفي ظل العقوبات الأميركية، أنشأ الحرس الثوري اقتصاداً سرياً تزامناً مع ظهور نخبة فاسدة جديدة من "رجال الأعمال المهرّبين". هو يمنع الحكومة من توظيف الخبراء باعتبارهم غير أكفاء سياسياً ويغيّر مسار السياسات الحكومية والمشاريع في أي وقت يريده. لكنه لا يتوانى في الوقت نفسه عن إطلاق حملة دعائية تُصرّ على لوم السياسيين والبيروقراطيين. كان الحرس الثوري الإيراني يحاول تشويه سمعة خصومه حصراً، على غرار أعضاء إدارة روحاني باعتبارهم "راضخين" و"غير أكفاء" و"موالين للغرب". لكن تلوم حملته الدعائية اليوم جميع الأطراف السياسية على مشاكل البلد. على مر العقد الماضي، عمل الحرس الثوري على إنتاج تاريخ مُحرّف عبر الأعمال الوثائقية والأفلام الطويلة والمسلسلات التلفزيونية التي تستهدف فئة الشباب من دون عرض ذكريات مباشرة عن ثورة 1979 وتداعياتها اللاحقة. تطرح هذه الأداة الإعلامية خطاباً مفاده أن الحرس الثوري كان يهتم بالناس وحارب من أجل الوطن فيما راحت النُخَب السياسية تتقاتل في ما بينها وتتصرف في معظم الأوقات بما يتعارض مع مصالح الوطن لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية.في القضايا المعاصرة أيضاً، يطرح الحرس الثوري الإيراني نفسه كحامي البلد الوحيد، باعتباره القوة التي هزمت تنظيم "داعش" ومنعت الجهات الخارجية و"عملاءها المخرّبين" من اختراق البلد وتدميره. هو يتفاخر بخبرته التكنولوجية أيضاً: حاولت حكومة روحاني إطلاق قمر اصطناعي صغير لتصوير الأرض وفشلت في مساعيها أربع مرات. في المقابل، أرسل الحرس الثوري قمراً اصطناعياً عسكرياً إلى المدار المناسب منذ المحاولة الأولى. وحتى في مجال الأعمال الإنسانية، يعتبر الحرس الثوري نفسه منقذ البلد. في ظل تفشّي فيروس كورونا، ادّعى أنه وزّع المساعدات والحزم الغذائية على 3 ملايين ونصف مليون عائلة إيرانية محرومة، وتشارك "المعسكرات الجهادية" التابعة له في نشاطات بناء المجتمع لمساعدة المحرومين. تُشكك منظمات المجتمع المدني المستقلة في عمق هذه المبادرات وتأثيرها، لكنّ أحداً منها لا يستفيد من تغطية إعلامية فاعلة على غرار الحرس الثوري.لكنّ التركيز على هذه الأعمال الإنسانية لا يخفي سمعة الحرس الثوري كمركز للقمع العنيف. يتذكر المواطنون الليبراليون المنتمون إلى الطبقة الوسطى في طهران حتى الآن استعراضه للقوة خلال احتجاجات "الحركة الخضراء" في عام 2009، وترافقت حملة القمع التي أطلقها خلال تظاهرات السنة الماضية مع عواقب وخيمة على الإيرانيين الفقراء في أماكن أخرى. يبدو أن الحرس الثوري يسعى إلى نشر الخوف وكسب الحب في الوقت نفسه.إذا لم يُحقق أياً من الهدفَين، سيقبل بأن تعتاد النُخَب الاقتصادية والثقافية وجوده ويجعلها تتعاون معه بكل راحة. ربما يبالغ البعض في تقييم دوره الاقتصادي، لكنّ غموض قطاع الأعمال في إيران يُصعّب التحقق من الوقائع. ذكرت دراسة جديدة أن منظومة الحرس الثوري الإيراني وجهات شبه حكومية أخرى لم تكن تملك أغلبية الحصص في أهم 22 قطاعاً اقتصادياً في إيران حتى عام 2014. لكن ما من علاقة مباشرة بين الملكية وفرض السيطرة في القطاع الاقتصادي الإيراني. قد توظّف الشركات التي تملكها الطبقة البرجوازية العلمانية في إيران مدراء وأعضاء مجلس إدارة تابعين للحرس الثوري بهدف تسهيل مناوراتها في العمل. كذلك، ينشئ الحرس الثوري أحياناً شركات بالوكالة للعمل تحت غطاء القطاع الخاص. بفضل هذه الأدوات وسواها، أصبح هذا الحرس رب عمل لا غنى عنه وأحد أكبر المقاولين العامين في مشاريع البناء في البلاد. لكنه يفتقر إلى الموارد البشرية والخبرة اللازمة لإدارة شركات بملايين الدولارات في قطاعات الاتصالات والخدمات المصرفية وبناء السفن والصناعات البتروكيماوية. نتيجةً لذلك، يعمل جزء كبير من الطبقة البرجوازية العلمانية الإيرانية لصالح المنظمة العسكرية مباشرةً أو كمقاول فرعي لها.منذ عشر سنوات فقط، كانت النُخَب الثقافية تعتبر العمل على مشاريع من تمويل الحرس الثوري أو بتكليف منه جزءاً من المحرمات. لكن تغيّر الوضع اليوم. تعاون المخرج المعروف مسعود كيميايي مثلاً مع منتج تابع للحرس الثوري حديثاً، مع أن أفلامه قبل الثورة كانت تحمل طابعاً شعبياً رائجاً. كذلك، أصدر المخرج محمد حسين مهدويان، وهو داعم قوي لروحاني، أعمالاً وثائقية وأفلاماً طويلة ناجحة بدعمٍ من الحرس الثوري.احترام بعيد المنال
يتفوق الحرس الثوري الإيراني على مستويات عدة في المنافسة القائمة على السلطة داخل الجمهورية الإسلامية، ومع ذلك لا يمكن اعتباره كياناً لا يُقهَر. رغم حصته الاقتصادية الكبيرة راهناً، لا تزال السلطة التنفيذية الإيرانية تدير الاقتصاد في جميع المجالات الأساسية. تُصمّم الحكومة السياسات المالية والنقدية وتسيطر على موارد النفط والغاز وتتحكم بخزينة الدولة. كذلك، تسيطر الحكومة على الرعاية الاجتماعية والمساعدات الإنسانية التي يتكل عليها الحرس الثوري بشكلٍ متزايد اليوم لبناء شبكات محسوبيات خاصة به.في الوقت نفسه، لا يزال الحرس الثوري منقسماً جداً في أوساطه الداخلية وأقل انضباطاً مما يفترض الكثيرون. الاضطرابات قائمة منذ أن نشأت صراعات بين قادة رفيعي المستوى خلال الحرب الإيرانية العراقية. أصبح الضباط المُحبطون من أقوى المدافعين عن الإصلاح السياسي بعدما تركوا الحرس الثوري خلال الثمانينيات. انشقّ البعض عن صفوفه في بداية التسعينيات والبعض الآخر في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.الفترة الأخيرة
اليوم، يوثّق العلماء فجوات كبرى بين مختلف الأجيال داخل الحرس الثوري الإيراني، حتى أن الجيل الشاب منقسم على نفسه. تعكس وسائل إعلامه الوافرة تلك الاختلافات. في الفترة الأخيرة، توقفت شركة "أوج أرتس" و"منظمة الإعلام" مثلاً عن اختيار الشخصيات الشريرة في أفلامها على شكل أعداء بشعين للنظام. تبدو الشخصيات اليوم معقدة أو حتى جاذبة. في الوقت نفسه، أنتج فريق إعلامي آخر تابع للحرس الثوري برنامجاً تلفزيونياً اسمه "غاندو"، فبرّر اعتقال مراسل "واشنطن بوست" جايسون ريزيان وسرد القصة بطريقة متناقضة. أحياناً تتسرب أخبار التوتر بين هاتين المجموعتين الإعلاميتين الجديدتين إلى الرأي العام. في شهر فبراير الماضي، انتقدت المجموعة الثانية طريقة صنع الأفلام في "أوج أرتس" واتهمتها "بإهدار أموال النظام وموارده لإيذائه".إسقاط طائرة أوكرانية
فيما يخص استمالة الرأي العام، لم ينجح الحرس الثوري الإيراني في كسب الاحترام الذي يريده عبر تقديم المساعدات ولا استعمال القوة. أدى اغتيال الجنرال قاسم سليماني على يد الأميركيين في يناير الماضي إلى نشوء لحظة وجيزة من التضامن، فغيّر الإيرانيون صورهم الرمزية في مواقع التواصل الاجتماعي إلى اللون الأسود حداداً عليه واحتجاجاً على ما حصل. لكن بعد مرور بضعة أيام، أسقط الحرس الثوري طائرة ركاب أوكرانية واحتفظ الأشخاص أنفسهم بالصور السوداء تعبيراً عن سخطهم لسبب مختلف. هدّد المخرج مسعود كيميايي بسحب فيلمه من أهم مهرجان محلي، وقاطع التلفزيون الوطني خطاب مهدويان خلال الحفل الختامي للمهرجان لأنه تعاطف علناً مع آباء المحتجين الذين قُتِلوا خلال اضطرابات عام 2019.يتابع الحرس الثوري الإيراني تهديد خصومه وسحق المعارضين، لكنّ أسلوب التخويف لا ينجح دوماً. في شهر أبريل أعلن القائد الأعلى، وسط احتفالات رسمية، أن الحرس الثوري اخترع جهازاً يستطيع رصد فيروس كورونا الجديد على بُعد 328 قدماً. فانتشرت موجة عفوية من السخرية في مختلف المنصات الإعلامية. وضعت "جمعية الفيزياء الإيرانية" (جمعية علمية جدّية ومحافظة للغاية لم يسبق أن أصدرت أي بيان سياسي) ذلك الادعاء في خانة "قصص الخيال العلمي".نقاط القوة السياسية
في الوقت الراهن، قد يكون ضعف الخصوم من أبرز نقاط القوة السياسية التي يتمتع بها الحرس الثوري. فاز روحاني بالانتخابات في عامَي 2013 و2017 بعدما تعهد بتجديد الأمل في حياة الشعب الإيراني. لكنه يوشك على إنهاء ولايته اليوم في ظل انتشار أقصى درجات اليأس. اندلعت احتجاجات على مستوى البلد كله في عامَي 2018 و2019 ونجح الحرس الثوري في سحقها. في تلك الظروف، عمدت حكومة روحاني (ائتلاف بين المحافظين المعتدلين، والبيروقراطيين الإصلاحيين غير الأكفاء، والتكنوقراط المتساهلين من أصحاب الولاءات السياسية المتقلّبة) إلى تقديم مساعدة فاعلة لقوى الأمن أو لم تُحرك أي ساكن. تفتقر الإدارة اليوم إلى المصداقية اللازمة لتعبئة قاعدتها الاجتماعية ضد الحرس الثوري الإيراني خلال الاستحقاقات الانتخابية أو في الشارع.لكنّ رغبة الحرس الثوري في إدارة شؤون الحكومة مسألة معقدة. لا شك في أن الموارد السياسية والاقتصادية التي تملكها الحكومة تُعتبر مغرية، لكن أثبتت التجارب السابقة أن أي جهة تستلم السلطة التنفيذية تصبح شوكة في خاصرة الحرس الثوري، بغض النظر عن انتمائها السياسي (حتى الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد الذي وصل إلى الرئاسة بدعمٍ كامل من الحرس الثوري عاد وغرق في مستنقع الفساد بعد وقتٍ قصير). لطالما أثبت تاريخ الجمهورية الإسلامية أن جميع الجهات التي تتولى وظائف تنفيذية وإدارية تعود وتحاول إرساء وضع طبيعي، ولو على حساب الزخم الثوري الذي يبقى محور مقاربة الحرس الإيراني.يستطيع الحرس الثوري الإيراني، باعتباره منظمة شبه حكومية، أن يستفيد من هذين العالمَين معاً فيبقى على مسافة من شؤون الحُكم اليومية ولا يتدخل إلا حين يرغب في ذلك. لو كانت هذه المنظمة تدير شؤون البلد اليومية، لاضطرت لإقرار تعديلات وتسويات دائمة قد تسيء إلى سمعتها الثورية. بعد مقتل سليماني مثلاً، دعا عدد من المقاتلين في الحرس الثوري إلى تنفيذ "انتقام قوي" لكنّ ذلك الرد الموعود لم يحصل مطلقاً. لم يتحمّل قادة الحرس الثوري تداعيات غضب المقاتلين لأنهم نجحوا في إعادة توجيهه ضد "السياسيين الجبناء".الانتخابات الرئاسية وعودة المتشددين إلى السلطة
بقي قادة الحرس الثوري خارج الحكومة واستغلوا الفرص لتحسين صورتهم، فتعاطفوا مع إضراب العمّال بسبب عدم تلقيهم أجورهم، وشاركوا في جهود الإنقاذ والإغاثة بعد الفيضانات والهزات الأرضية، وواسوا المتقاعدين الذين يلومون الحكومة على خسارة مدخراتهم (مع أن المؤسسات المالية المرتبطة بالحرس الثوري هي التي سرقت أموالهم). من واجب الحكومة أن تخدم الشعب، لكن يستطيع الحرس الثوري من جهته أن يقدم خدماته في الوقت الذي يناسبه. بالتالي، يعني استلام السلطة التنفيذية استبدال المجاملات العابرة بمسؤوليات دائمة.من المتوقع أن تُمهّد الانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران لعودة المتشددين إلى السلطة. خسر الإصلاحيون معظم رصيدهم ومكانتهم في المجتمع. لكنّ عام 2021 لن يشهد على نهاية السياسة في إيران، بل إنه سيضيف فصلاً جديداً إلى كتابٍ لا تزال نهايته مفتوحة. من المعروف أن الصراع بين النُخَب السياسية الإيرانية قائم منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية وسيتابع إنتاج الفرص لإحداث تغيير قد لا يروق للمعارضة ولا النُخَب الحاكمة. ربما يرغب الحرس الثوري في فرض سيطرته إذاً، لكنه قد لا يُسرّ بالنتيجة النهائية.
*علي رضا إشراغي وأمير حسين مهدوي