كلاكيت: ووترغيت-كويت غيت
مسألة التجسس ليست بالهينة أو البسيطة، حتى الكتابة عنها وترتيب الأفكار لمقال كهذا لم تكن بالشيء السهل، فكلما عَصَفت في ذهني مجموعة من الأفكار عاندني يراعي في تسطيرها، وكل هذا قد يكون بسبب قدسية وحساسية الموضوع، فمسألة التجسس لها بعدٌ أخلاقي مهم جداً، حيث يقوم الفاعل بانتهاك حُرمات وسرية الطرف الآخر، وباختصار يأخذ (بل يسرق) ما لا يحق له البتة سواء كان على شاكلة معلومات أو أحاديث أو حتى وصفة طبخ سرية لربة منزل لم ترد لجارتها أن تعرفها!أما من زاوية دينية فقد أتى نهيٌ صريح في القرآن الكريم عن فعل التجسس واختلاس السَمع والغيبة في قوله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً منَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً"، ﺇلى آخر الآيات من سورة الحجرات. ولا أتصور أن هناك أي دين، ﺇبراهيمي أو غيره، يبيح انتهاك الحرمات والتجسس بأي شكل من الأشكال، كما أن البعد النفسي والاجتماعي لتلك المسألة لا يقل أهمية عن بقية زواياها من حيث نظرة المجتمع للفاعل والحالة النفسية التي يكون فيها حين يتم القبض عليه، فالشخص المتجسس سيبقى منبوذاﹰ ومعروفاً لدى الناس مهما تقادمت به الأيام والسنون. أما من الناحية السياسية فالموضوع خطير وحساس ﺇلى أبعد مما يتصوره المواطن العادي في أي بلد كان، ففضائح التجسس كانت وستبقى كفيلة بإسقاط حكومات وانتفاء مصداقيتها في أعين رعاياها. ولعل أبرز مثال لفعلة كهذه هي الفضيحة الشهيرة لمبنى "ووترغيت" عام 1972 التي أودت بالرئيس الأميركي "ريتشارد نيكسون" وتاريخه السياسي أمام المجتمع العالمي ﺇلى الهاوية، فمن بعد تصدي الصحافة الأميركية لحادثة دخول مبنى "ووترغيت" واكتشاف التسجيلات المرتبطة بحملات الرئيس الانتخابية، بدأ مسلسل الفضائح يتكشف من جهة، ومن جهة أخرى حملة التصدي و"ستر العورات" من جهة مكتب الرئاسة الجمهوري.
نعم لم يكن الموضوع بسيطاً، بل استغرق قرابة السنتين لتتم الإطاحة بالرئيس "نيكسون" من بعد الفضيحة الكبرى أمام الشعب، ولم تكن المسألة منتهية في يوم وليلة، ومن بعد كشف المستور أتت استقالة (أو بالأحرى) ﺇقالة الرئيس على طبق من ذهب، بل أتت من بعد كرّ وفرّ صحافي وسياسي طويل امتد ﺇلى 1974 ليتولى "غيرالد فورد" مهام الرئاسة من بعد ذلك. أتت تلك الاستقالة من بعد تضييق الخناق على "نيكسون" ومعرفته وقناعته الشخصية بأن انتزاعه من كرسي الرجل الأول في الولايات المتحدة الأميركية أمر قادم لا محالة. نعم، حتى الخواجات لا يتركون كراسيهم بسهولة!فضائح التجسس ليست بالأمر الجديد أو حتى الغريب في مجتمعنا العربي، فخلايا التجسس يتم القبض عليها وعادة لمصلحة دول أخرى سواء كان على مستوى المنطقة العربية أو الخليجية بصورة أخص. المصيبة تأتي حين تستخدم سلطة ما كل التقنيات وترسانة أدواتها وأسلحتها الإلكترونية ضد شعبها المغلوب على أمره، ذلك الشعب الذي أصبح لا يستيطع أن يأتمن أحداً على خصوصيته في منصات التواصل الاجتماعي أو مكالماته الشخصية ليصبح لديه شيء من "فوبيا المراسلات"، بل يرى ذلك الشعب أن إحدى مواد دستوره قد تم انتهاكها صراحة وبعين قوية دون أن يتم تحريك ساكن، فإحالة البعض إلى التحقيق وإقالة آخرين لا تبعثان بالطمأنينة في أنفس الناس لأنهم مازالوا أمام أمر واقع متمثل في قيادات مازالت على رأس عملها، وقد تمارس ذلك النهج في أي لحظة شاءت، والذي يعصر القلب ألماﹰ أكثر ويقتل المواطن ألف مرة في اليوم الواحد هو تجديد الثقة بالوزير أو القيادي المسؤول عن ذلك كله وفي بيت الشعب أيضاﹰ!! فأي نهجٍ تتبعه السلطة ﺇذا كان مثل هذا الموضوع يمر مرور الكرام أمام أعين الناس أجمع؟! لا أدري، لكن لعل الحمام الزاجل يفي بالغرض من الآن فصاعداﹰ ليتراسل بعضنا مع بعض ويحدد مواعيد لعب كرة القدم أو اجتماعات العمل.عموماﹰ أُشدد في النهاية على أن أي تطابق بين هذا المقال وواقعنا الوردي الجميل الخالي من وقائع التجسس على المواطنين ليس مقصوداً، بل أنا أتحدث عن وقائع حدثت في مملكة شرق سوارستان الشعبية الديمقراطية. على الهامش: عَنْ بُرَيْدَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ. (متفق عليه). احذر أن تحكم في مسألة وأنت لست متأكداً تماما من وقائعها كافة. هامش آخر: يبدو لي أن "الفرعيات" وما تنتج من "محزم مليان" لم تعد مجرمة بالقانون الكويتي بل تتم على مرأى ومسمع من الجميع.