أشارت مقالة نشرت حديثاً في صحيفة ساوث تشاينا مورننغ الى "حدوث تصدع في العلاقات الروسية– الصينية"، وفي حقيقة الأمر فإن قائمة الخلافات بين موسكو وبكين شهدت في الآونة الأخيرة زيادة كبيرة حقاً.وكان الاحتفال بالذكرى الـ160 لفلاديفستوك قد اعتبر إهانة موجهة الى الصين لأن تلك المدينة هي عاصمة الإقليم الذي ضمته الإمبراطورية الروسية الى أراضيها في عام 1860 بعد خسارة الصين لحرب الأفيون الثانية، وأعقب ذلك توقيع روسيا اتفاقية سلاح مع الهند بعد وقت قصير من اندلاع مواجهة عسكرية بين نيودلهي وبكين على طول الحدود المتنازع عليها بين البلدين في الهيمالايا، وفي غضون ذلك، لا تزال الصين في انتظار الحصول على نظام صواريخ (إس–400) المضادة للطائرات التي أخرتها موسكو بسبب انتشار وباء كورونا المستجد ثم أعلنت روسيا "تعليق" العملية من دون تحديد موعد جديد للتسليم.
ولكن الجانب الأكثر أهمية يتمثل بالاقتراح الذي طرحته الهند ويشير الى احتمال انضمام روسيا الى مجموعة الهند– المحيط الهادئ التي تقودها الولايات المتحدة، وهي خطوة قال المعلقون الصينيون إنها تشكل "خيانة للصين" وهي فكرة تماثل "الطلب من روسيا أن تنضم الى حلف شمال الأطلسي".
من الناتو الى الصين وبالعكس
جدير بالذكر أن المقالة المشار اليها والتي حملت العنوان "هل تقف روسيا الى جانب الولايات المتحدة والهند ضد الصين؟" لم تطرح أي أجوبة محددة، ولكن يتعين اعتبارها على شكل انعكاس لحقيقة أن الصين شعرت بشكوك متزايدة حول كون روسيا الدولة التي ليس لديها تطلعات للتخلص من اعتمادها المتصاعد على الصين.وقد لا تكون مثل تلك الخطوة من جانب موسكو مفاجئة، وقد ضاعف انتشار وباء كورونا كل المشاكل التي واجهت روسيا في علاقتها مع الصين الى درجة اعتبرت روسيا فيها دولة تسعى الصين الى ابتلاعها، ويمكن أن نقبل أن تقر موسكو بأن الصين دولة تشكل خطراً عليها، ولكن التصرف على ذلك الأساس مسألة مختلفة تماماً.وعلى الرغم من ذلك، حدثت مثل تلك السابقة من قبل، وقد تجلت في مناسبات كثيرة منذ وصل الرئيس فلاديمير بوتين الى الحكم في عام 1999 وقامت روسيا بمحاولات تهدف الى الانضمام الى التحالف العابر للمحيط الأطلسي، وأسفرت أيضاً عن تصريحات لبوتين في عام 2000 حول إمكانية انضمام روسيا الى حلف شمال الأطلسي.وتشابه العوامل التي حالت دون تحقيق روسيا ذلك الهدف قبل عشرين عاماً مع الظروف الحالية في علاقتها مع الصين، وتمثل أول تلك الظروف في تجربة روسيا العقيمة مع الديمقراطية الليبرالية الغربية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 ثم في توسع حلف شمال الأطلسي في شرق ووسط أوروبا خلال التسعينيات والحروب التي قادتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ بداية الألفية.ومع تكرار تلك الظروف في الوقت الراهن يتعين النظر الى تداعياتها قبل القفز الى أي استنتاجات تقول إن الغرب كانت له اليد العليا في تلك اللعبة، ومن ثم السماح للرئيس بوتين بالتوصل الى توازن جديد بين الصين والغرب وتكوين خطوة مهمة نحو احتواء تطلع الصين الى املاء شروطها على المسرح الدولي.المحور الصيني - الروسي
في شهر نوفمبر 2000 كتب الرئيس بوتين مقالة أكد فيها أن روسيا شعرت دائماً أنها دولة أوراسية، وقال "نحن لم ننس قط أن القسم الرئيس من الأراضي الروسية يقع في آسيا، وبصراحة أنا أعتقد أن الوقت قد حان كي نتحرك نحن والدول الآسيوية وفي المحيط الهادئ من نطاق الكلمات الى الأعمال وبناء علاقات اقتصادية وسياسية كما أن لدى روسيا اليوم فرصة حقيقية لتحقيق تلك الغاية".وقد عكست تلك المقالة كيف تعرضت روسيا لوهم عميق في أعقاب ظهور نتائج تورطها الذي استمر عقداً من الزمن مع نظام الديمقراطيات في الغرب، وتعتبر موسكو آسيا الآن ممراً يمكنها من استعادة موقعها على شكل "دولة الصف الأول" وهو ما كان الرئيس بوتين يحلم به منذ لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي.في غضون ذلك وصف أليكسي فوسكرسنسكي الذي شارك في كتاب بعنوان "الصين والعالم" نشرته هذا العام صحافة جامعة أكسفورد وتضمن فصلاً يتحدث عن (تطور العلاقات الصينية– الروسية) وكيف أن نقص الدعم الحقيقي من جانب الغرب الى الاقتصاد الروسي في تسعينات القرن الماضي قد تم استغلاله من قبل بكين التي تعتبر موسكو اليوم عقبة في طريق انتقال الصين الى مصاف القوى العظمى في العالم، وقد وصف فوسكرسنسكي كيف أن مليارات الدولارات التي تضمنتها عقود أسلحة مكنت الصين من "تحسين الجيل الثاني من الأسلحة".أول رابطة عسكرية
وتجدر الاشارة الى أن أول رابطة عسكرية بين روسيا والصين خلقت حلقة من التعاون الاقتصادي والسياسي المتعدد الوجوه، وفي الفترة بين 1996 و2008، على سبيل المثال، تم حل النزاع الحدودي بين الصين وروسيا بصورة تدريجية بعد أن استمر لأكثر من نصف قرن من الزمن، كما أن العلاقات التجارية الثنائية والاستثمارات الصينية في روسيا أيضاً شهدت نمواً استثنائياً وأسفرت عن تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون التي قبلت في عام 2017 انضمام الهند وباكستان اليها.وفي واقع الحال فإن الشريحة التي حذرت من إقامة علاقات وثيقة مع الصين لم تتمتع بدعم كبير بسبب ضعف مجادلتها ونشاطها في حين أحجمت الصين ولفترة طويلة من الزمن عن استخدام قوتها على المسرح الدولي وعلى الأقل بالمقارنة مع ما كانت قادرة على القيام به في ضوء قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.صمود الصين يقلق روسيا
وتختلف الأوضاع بصورة واسعة وقد بدأت الصين في السنوات القليلة الماضية وبشكل غير متوقع بسحب وتحريك الخيوط التي بحوزتها وتحول النزاع حول بحر الصين الجنوبي الى مشكلة دولية رئيسة كما أن الخلاف المتعلق بالحكم الذاتي في هونغ كونغ أسهم في نشر القلق في نصف دول العالم، وإضافة الى ذلك فإن المواجهة العسكرية الأخيرة مع الهند أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى بين الجانبين.واللافت أيضاً أن الصين لم تعد تحجم عن المشاركة العلنية والتورط في نزاعات مختلفة في أنحاء من العالم تعتبرها روسيا مناطق نفوذ خاصة بها، ويتضح المثل الصارخ هنا في القلاقل التي أعقبت الانتخابات الأخيرة في مينسك حيث استخدمت قوات الأمن البيلاروسية العربات المدرعة المصنوعة في الصين لقمع المتظاهرين السلميين.وليس سراً أن الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ قد زودت بصورة كبيرة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو بالدعم اللازم من أجل المضي في محاولاته الرامية الى الحفاظ على الاستقلال عن روسيا التي كانت تضغط لتحقيق تكامل سياسي واقتصادي أكثر عمقاً بين مينسك وموسكو. كما أن من المهم التأكيد على أن تلك العمليات تعززت بشدة منذ غزو روسيا لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، وهي أحداث جعلت الرئيس بوتين عاجزاً عن استخدام أوروبا والدول الغربية على شكل ثقل مقابل أمام النفوذ الصيني.وقد تكون العملية مضت الى حد بعيد تماماً عندما استخدمت الصين التداعيات الاقتصادية الناجمة عن انتشار وباء كورونا ضد روسيا، وعلى الرغم من أننا لا نعلم ما إذا كان الرئيس بوتين قد مضى في حربه السيئة المتعلقة بأسعار النفط ضد الولايات المتحدة والسعودية من دون بعض الدعم من جانب الصين فإن بكين سمحت بكل تأكيد لموسكو باستنزاف احتياطيها الثمين لأسابيع كثيرة قبل أن تلقي اليها بحبل النجاة: وقد قلصت الصين فجأة مشترياتها من النفط من دول الشرق الأوسط بنسبة 31 في المئة مقارنة مع معدلات العام الماضي كما زادت حصتها من النفط المستورد من روسيا.والأكثر من ذلك أن حبل النجاة المشار اليه انتهى بمغامرة مثيرة للشك، وقد توقع محللون في وود ماكينزي أن تكون أسعار النفط المتدنية سمحت للصين بزيادة احتياطياتها الى 1.15 مليار برميل في هذا العام فقط.خطوة استراتيجية مهمة
وتعتبر حيازة أكثر من مليار برميل من النفط كمية كافية بالنسبة الى الصين لتغطية احتياجاتها لحوالي ثلاثة أشهر وهي فترة كافية لشراء وشحن النفط من أي مكان في العالم، وهكذا خسرت روسيا زبائنها في حين تمكنت بكين من التخلص من الضغط الروسي وفي المستقبل ستتمكن الصين من املاء أسعار النفط على روسيا التي يشكل انتاج النفط نحو 16 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي فيها والقسم الأكبر من عوائد الحكومة الفدرالية.وتشبه هذه الخطوة الى حد كبير الوضع الذي أبعد موسكو عن مسار نحو عضوية حلف شمال الأطلسي قبل عقدين من الزمن، ويومها اعتبر الرئيس بوتين أن هجمات القوات الأميركية على أفغانستان والعراق تهدف الى تطويق روسيا وجعلها غير قادرة على الدفاع عن نفسها.جدير بالذكر أن الصين مضت بعيداً جداً على الطريق الذي اتبعه الغرب قبل 20 عاماً ودفع موسكو الى اعادة النظر في موقعها بين الصين والغرب كما أن المرء يمكن أن يتحدث عن فرص اختيار الغرب للحوار مع موسكو بغية ابعادها عن الصين، ولكن تلك الخطوة لن تكون سهلة من دون التضحية بالقيم الأساسية للغرب مع الأخذ بعين الاعتبار ما حدث في أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا اضافة الى الكثير من عمليات تسميم واغتيالات سياسية في روسيا ودول أخرى وتدخل الكرملين في العمليات الديمقراطية في الولايات المتحدة وبريطانيا والكثير من بلدان العالم.استغلال الصين لروسيا
ولكن على الرغم من ذلك كله فإن أكثر ما يثير القلق هو إمكانية استغلال الصين لروسيا على شكل مستودع للمواد الأولية ومصدر للتقنية العسكرية، كما أن روسيا الأكثر استقلالية يمكن أن تحد الى درجة كبيرة من تأثيرات مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبالتالي من هيمنة بكين في آسيا بصورة عامة.وفي ضوء الاشارات الواردة من الكرملين قد تكون هذه هي الفرصة المناسبة للغرب لطرح شروط على الرئيس الروسي تمكن موسكو من التخلص من قبضة بكين.*ستانيسلو ساكارزينسكي ودانييل