لم تكن الولايات المتحدة تشعر بقلق إزاء اليابان طوال نحو عقد من الزمن، أما الآن فربما حان الوقت كي يتملكها القلق في أعقاب إعلان رئيس الوزراء شينزو آبي استقالته.قد يكون التوقيت مجرد مصادفة، ولكن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الذي خدم أطول فترة في منصبه في اليابان تقدم باستقالته في الأسبوع نفسه الذي تسلم فيه الحكم قبل عقد من الزمن ولأسباب صحية واضحة، وعلى الرغم من تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي والانكماش الحاد في الاقتصاد الياباني وفضيحة عام 2016 حول بيع قطعة أرض لبناء مدرسة في أوساكا، ظل آبي شخصية سياسية مؤثرة ومهيمنة في اليابان طوال عقد من الزمن كان فيه حليفاً مخلصاً للولايات المتحدة.
جدير بالذكر أن خسارة تلك الشراكة في الوقت الذي تتصاعد فيه المنافسة الجيوسياسية الصينية– الأميركية تثير قلق واشنطن، والأسئلة المطروحة اليوم هي: من الذي سيخلف آبي؟ وهل ستنجرف اليابان نحو شلل سياسي أو حالة من عدم الاستقرار؟ وهل سيتمتع رئيس الوزراء الجديد بالحيوية التي اتسم بها سلفه في السياسة الخارجية والدفاع؟وبعد ثلاث فترات متواصلة في رئاسة الوزارة اليابانية يصعب تذكر الصورة الضعيفة التي بدت فيها اليابان عندما تسلم آبي الحكم في عام 2012، وسبق أن تقدم آبي باستقالته لأول مرة في عام 2007 وأسفرت يومها عن وصول خمسة قادة للحكم لمدة عام واحد لكل منهم.وشينزو آبي هو ابن وزير خارجية وحفيد نوبوسوكو كيشي الذي تعرض للسجن بعد أن اتهمته الولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب، ثم أصبح رئيساً للوزراء في اليابان في الفترة من 1957 الى 1960 وكان أحد مهندسي أعمال الحزب الليبرالي الديمقراطي طوال عقود من الزمن، وقد تمكن آبي من تعزيز مركزه بعد عام 2012 من خلال خطة اقتصادية متماسكة وسياسة خارجية ناجحة، كما أنه طرح ما يعرف باسم "الخطة الآبية" ذات الشعارات الثلاثة، وهي سهام ترمز إلى التوسع النقدي والتحفيز المالي والإصلاح الهيكلي.
تجاوز عثرات الطريق
وفي حين لم يتمكن آبي من تحقيق الكثير من أهدافه مثل الوصول الى معدل تضخم عند 2 في المئة بغية إنهاء الانكماش الاقتصادي في اليابان فقد تمكن من ترسيخ أرضية جديدة عن طريق الانضمام الى مفاوضات الشركة عبر المحيط الهادئ وخفض ضرائب الشركات وتحرير قطاعات حيوية مثل الكهرباء إضافة الى زيادة عدد العمال الأجانب في اليابان وتحسين نسبة عدد النساء في القوة العاملة في البلاد.ولكن فضائح حوكمة الشركات، بما في ذلك فضيحة توشيبا ورينو– نيسان وقد أسفرت تلك الأخيرة عن اعتقال ثم فرار رجل الأعمال كارلوس غصن، طرحت صعوبة إصلاح ما كان يشار اليه باسم "اليابان إنك"، وعلى الرغم من ذلك حقق آبي الإصلاح الاقتصادي الشامل الوحيد في اليابان والعودة الى الأساسيات في ضوء غياب أي بدائل أخرى.وإذا كانت سياسة آبي الاقتصادية تعتبر متواضعة وفقاً للمقاييس العالمية فإن سياسته الخارجية والأمنية كانت أفضل من أي زعيم سياسي ياباني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عمل على إصلاح دستور اليابان وإلغاء المادة 9 منه التي تمنع البلاد من تشكيل جيش تقليدي كما تقدم بأكثر الاعتذارات جلاء عن دور اليابان في الحرب العالمية الثانية، وقام بزيارة الى بيرل هاربر واستضاف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في هيروشيما.ونجح آبي أيضاً في إلغاء القوانين التي تمنع اليابان من التعاون في أمور الدفاع مع الحلفاء وسمح للشركات اليابانية بالتعاون في الإنتاج الدفاعي، كما أسس مجلس الأمن القومي وتمكن من زيادة ميزانية الدفاع في كل عام، ووضعت اليابان في عهده خططاً لصنع أول حاملة طائرات منذ الحرب العالمية الثانية، وستحصل عما قريب على ثاني أضخم أسطول من طائرات (إف–35)-بعد الولايات المتحدة- إضافة إلى قوة برمائية جديدة مصممة لحماية الجزر اليابانية من الجيش الصيني.تحسين العلاقات الآسيوية
وتمكنت طوكيو في عهد شينزو آبي من تعميق علاقاتها مع كل دول آسيا، وخصوصاً مع الهند، حيث أقام تعاوناً فعالاً مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي إضافة إلى تحسين علاقات طوكيو مع أستراليا ودول جنوب شرق آسيا، وكان العامل المشترك وراء ذلك كله طبعاً هو الخوف من الصين الصاعدة التي كانت أكبر شريكة اقتصادية لليابان، لكنها كانت في الوقت نفسه الخطر الأكثر جلاء للمصالح القومية اليابانية، وكانت رسال آبي الى البلدان الآسيوية الأخرى في الكثير من الجوانب واضحة تماماً وهي أن اليابان هي الدولة التي يمكن العمل معها على صعيد التبادل التجاري، والتي لن ترعبكم أو تهددكم.وربما كانت مجرد مصادفة أخرى في سياق عهد آبي السياسي، وهي عودته إلى الحكم مع تسلم شي جين بينغ السلطة في الصين، وكانت بكين تراقب بقلق قيام طوكيو بتوسيع علاقاتها الاقتصادية والخارجية لا سيما عبر سياسة مساعدات التنمية الخارجية المقابلة لخطة الحزام والطريق الصينية.وكان تحديث آبي للجيش مصدر القلق الأكبر بالنسبة الى بكين، ولم تقتصر جهود آبي على الدفاع ضد عمليات التوغل الصينية في مياه جزر سنكاكو وديايو المتنازع عليها، بل إنه عمل على تعميق تعاون اليابان الأمني مع أستراليا والهند، وحافظ على علاقات جيدة مع تايوان، ومما لا شك فيه أن بكين ستتنفس الصعداء بعد استقالة آبي، كما أنها تأمل أن يكون رئيس الوزراء الياباني الجديد أقل اندفاعاً نحو المضي في دور اليابان التوسعي في العالم.التحالف مع واشنطن
كان التحالف مع الولايات المتحدة الركيزة الأساسية التي اعتمدها آبي في سياسته الخارجية، وقد ساعد في تحقيق مراجعة ناجحة للخطوط الإرشادية المتعلقة بالتحالف بين اليابان والولايات المتحدة وتعميقه الى حد كبير في عهد الرئيس باراك أوباما، ولكن التاريخ سيذكر آبي بدرجة أكبر بسبب تعاونه الوثيق مع الرئيس دونالد ترامب وتكوين علاقة وطيدة وفريدة معه، وكان آبي يدرك أن التعاون مع واشنطن يعتبر خطوة حيوية بالنسبة الى استقرار وازدهار اليابان، كما كان أسلوبه في التعامل مع الرئيس ترامي يهدف في المقام الأول الى مواجهة الصين وضمان تقديم الولايات المتحدة المساعدة اللازمة من أجل حماية اليابان من كوريا الشمالية إضافة الى إجراء مفاوضات حول طرح بديل للاتفاقية التجارية للشراكة عبر المحيط الهادئ بعد انسحاب الولايات المتحدة منها.وقد أعرب آبي في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه استقالته عن أسفه لعدم تمكنه من دفع روسيا الى اعادة جزر الكوريل المتنازع عليها، والتي استولت روسيا عليها بعد الحرب العالمية الثانية إضافة الى عودة المختطفين من كوريا الشمالية، ولاحظ آبي أيضاً فشله في مراجعة الدستور الياباني، وما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي غير التام، وتخلف اليابان في ميدان التقنية الرقمية المالية (5 جي) والأمن السيبراني، ولكن على الرغم من ذلك كله كان آبي واحداً من أبرز الوجوه السياسية في آسيا وأكثرها تأثيراً ونجاحاً، وفي العام الماضي تفادت اليابان الحصيلة الأسوأ من انتشار وباء كورونا كما أن طوكيو أدت دوراً أكبر على المسرح في آسيا والخارج.السؤال الأكثر أهمية
والسؤال الأكثر أهمية طبعاً بالنسبة الى اليابان هو من سيخلف آبي وكيفية الرد على سياسته، ويتمتع الحزب الليبرالي الديمقراطي بأكثرية واضحة في البرلمان الذي سيختار الزعيم الجديد للبلاد من بين الشخصيات السياسية الطامحة مثل وزير الدفاع السابق شيغيرو إيشيبا ووزير الخارجية السابق فيوميو كيشيدا ووزير الدفاع الحالي تارو كونو.جدير بالذكر أن آبي كان السياسي الأكثر شعبية في اليابان، ولا يوجد من يماثله في السيطرة، كما أن بكين وبيونغ يانغ تتطلعان الى رئيس وزراء ياباني جديد لا يحتضن السياسة الأميركية، في حين يتملك القلق الأسواق من أن يتراجع رئيس الوزراء الجديد عن الاصلاحات التي تحققت وعدم اتخاذ الخطوات اللازمة من أجل زيادة تنافسية اليابان الصناعية.وبالنسبة الى الولايات المتحدة فقد اعتادت على أجواء الاستقرار في اليابان وربما تواجه مفاجأة قاسية، ولم تكن واشنطن طوال عقد من الزمن تشعر بقلق إزاء التزام رئيس وزراء اليابان بالتحالف والحفاظ على أكثرية في البرلمان إضافة الى ضمان قيام اليابان بدورها كثالث أكبر اقتصاد في العالم، ولكن قد تتغير الصورة عما قريب في اليابان ولدى الحلفاء في الخارج.• مايكل أوسلين