أسعد الله صباحك أخي وصديقي فريد العثمان، فقد كنت في سبيلي لقراءة ما أرسلته لي عبر "الواتساب" صباح هذا اليوم، لكن الموت فاجأني ولم أتمالك نفسي عندما جاءني خبر غيابكم عنا، فلا رادّ لقضاء الله. تداولنا الخبر مع أصدقائك المقربين وكنت كالزهرة بيننا، والكل يسأل بحرقة، هل فعلاً سنفتقده ولم يعد بإمكاننا مجالسته أو رؤيته؟ لقد خطفك "كورونا" منا بلا استئذان وها نحن نخسر أحباءنا وأصدقاءنا واحداً تلو الآخر، دون أن تتاح لنا فرصة المشاركة بالعزاء وتوديعه إلى مثواه الأخير، حيث يرقد بسلام.
شاركنا فاجعة المرفأ في بيروت قبل أن يرحل عنا، وكان دائم السؤال عن البلد الذي أحبه وله فيه ذكريات وسنوات، امتلك ناصية الثقافة وبقي مراقباً وقارئاً، لم تغره الشاشات ولا المنابر، وعندما يشعر بالحاجة إلى إيصال رأي، فلا يتردد كما كتب يوماً في جريدة "الجريدة" نقداً عن الليبراليين، وعنده أن الفكر الليبرالي هو طريقة عيش وحياة وسبيل تعامل وأمان نفسي، بل قناعة ومصالحة مع ذات الإنسان وداخله، هو تجرد من القيود الفكرية والتقليدية والخلفيات الموروثة التي نسميها العادات. في المرات القليلة التي أطل بها عبر "الجريدة" وفي مقابلة له أجراها الزميل عادل سامي أوضح قناعاته التي لا يخفيها أمام أحد، فهو صاحب قول جريء، وعنده أن مجلس الأمة لم يصل إلى صلب الديمقرطية الحقيقية، مشدداً على إدخال هذه المادة في المناهج المدرسية، وقال إن المسلمين لم يفشلوا في إرساء مبادئ الديمقراطية لأنهم لم يطبقوها أصلاً، وبرأيه أنه لا يمكن تطبيق الديمقراطية بعيداً عن فصل الدين عن السياسة. مارس كتابة المقال في "القبس" و"الطليعة" و"الجريدة" و"المجالس" وفي صحف سعودية وخليجية ولبنانية، وكانت له مداخلات حادة مع التيارات الإسلامية المتشددة، ففي أزمة "كورونا" التي ذهب ضحيتها رد على أحدهم بالقول "هذه كوراث لا تميز بين مسلم وكافر أو خبيث وطيب أو عاقل ومجنون، ولا تنسى أن كل الأماكن المقدسة عند المسلمين أغلقت وتوقفت الصلوات الجماعية، فلا تفرح كثيراً إذا أغلقت!". يؤثر الصمت في الشأن السياسي الوطني والعام، لكن النأي بالنفس لا يعني السلبية، بل كان راصداً وبحذر شديد لما يحدث في الملعب الخليجي، ففي عام 1995 كتب مقالا حول "الحرج في الحديث عن مجلس التعاون" ابتدأه بجملة تختصر الموقف، قال فيها: "كل من أراد أن يتحدث عن مجلس التعاون وعن علاقات دوله الثنائية والجماعية يجد ماءً في فمه فيسكت، خوفاً من فهم خاطئ، وحرجاً من حساسية وهمية بين القادة وبعضهم، وبين القادة والشعب". قد لا يرقى إلى درجة الفقيه بعلوم الشريعة الإسلامية، لكنه متبحر فيها إلى درجة العبور بأمان في أي مناظرة تجمعه مع أحد رجال الدين أو الإسلاميين المتحزبين.سلوكه العام ينسجم مع الفكر الذي يتبناه ويدعو إليه، ونادراً ما تراه متقبلاً لما يسمعه من أساطير وخرافات، بل تراه ممسكاً بالحديث بأسلوب يفرض على من يحاوره الإنصات والتفكر. ستكون جلسة يوم الجمعة أكثر الأماكن التي ستشعر بخلو كرسيه، فمنزل الأخ الكبير أبي أياد، محمد المعتوق بالرميثية والذي يجمع ثلة من الأصدقاء والمنسجمين مع بعضهم فكرياً إلى حد كبير، كان بمثابة منبر مفتوح يلتقون فيه يتجادلون في الشأن العام والقضايا المطروحة، وكل يدلي يدلوه لكن حصة "بوطارق" هي الأكثر رجحاناً من غيرها. كانت له مبارزات شعرية لا يعرفها إلا القلة، ومن محبي قصائد أبي نواس والبحتري، فقد نظم أبياتاً من الشعر ونشرها في "القبس" بتاريخ 14 أغسطس 1991 بعد التحرير، وكانت بعنوان "نهاية من يذل" مطلعها:أم المعارك أصبحت أم الهزائم وغدا الأشاوس والنشامى كالسوائم وجحافل المغرور خرت وانطوت والجند الأعتاد عُدّت في الغنائم وينهيها: وكذا الشعوب تساق من أعناقها ما دام يترك أمرها في كف ظالم فريد العثمان، كان قامة فكرية وثقافية وخير جليس تأنس به، فالرحمة لك والعزاء لأسرتك وأصدقائك ومحبيك.
مقالات
فريد العثمان خير جليس تأنس به
13-09-2020