على عكس الأفكار الشائعة، لا يحبذ النظام الروسي لجوء داعميه إلى العنف ولم يعد هذا الأسلوب حكراً عليه منذ فترة، فقد كلّف مجموعة من الهواة بارتكاب أعمال العنف عند الحاجة غداة الاحتجاجات المعادية للحكومة بين العامين 2011 و2012 وخلال الحرب في شرق أوكرانيا، حين احتاج الكرملين إلى متطوعين هناك لخوض حرب بالوكالة، وفي نهاية المطاف توقفت وسائل الإعلام الحكومية عن الإشادة بالمغامرين في صفوف القوى الانفصالية، وحاولت السلطات وضع تلك الجهات تحت سيطرة الدولة قبل حجبها عن أنظار الرأي العام.تعكس الظروف الراهنة، بدءاً من الاحتجاجات في "خاباروفسك" وصولاً إلى الاضطرابات في بيلاروسيا، تلك الأزمات الماضية، لكن قد يتخذ الوضع منحىً خطيراً لدرجة أن يضطر الكرملين للتدخل مباشرةً بدل الاتكال على جهات بديلة.
ثم برزت مسألة تسمم المعارِض الروسي ألكسي نافالني، فبغض النظر عن مسؤولية الرئيس فلاديمير بوتين عن اتخاذ هذا القرار أو التوقيع عليه شخصياً، يثبت هذا الحدث تدهور الحكم الاستبدادي الروسي، مما يعني أن النظام، أو جزء منه على الأقل، بات مقتنعاً بضرورة تجاوز أدوات الحملة الدعائية الحكومية وتزوير الانتخابات والتقنيات السياسية وحملات القمع المستهدفة وغير القاتلة.نظراً إلى مكان تسميم نافالني في "تومسك"، في عمق روسيا، لا يمكن تصديق الفرضية القائلة إن أعداء موسكو استهدفوه لتشويه مكانة روسيا الدولية. كذلك، كانت طريقة مهاجمته معقدة، على عكس عمليات قتل بوريس نيمتسوف وآنا بوليتكوفسكايا، وبالتالي لا يمكن نَسْب العملية إلى جهات فاسدة أو متعصبة مثل الشيشانيين.لكنّ هذه الوقائع لم تمنع رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو من التكلم عن نظرية المؤامرة في قضية نافالني وتوجيه أصابع الاتهام إلى الغرب. من الواضح أن المأزق الذي يواجهه لوكاشينكو يجبره على اتخاذ خطوات غير مألوفة، حتى أنه لا يمانع الظهور بصورة سخيفة وخرقاء كي تستنتج روسيا أنه حليف مفيد ويستحق الدعم.مع ذلك، تبقى مقاربة لوكاشينكو محدودة على بعض المستويات، ومن المستبعد مثلاً أن يعترف رسمياً باستقلال أبخازيا أو يعتبر شبه جزيرة القرم أرضاً روسية أو يسلّم أصول الدولة البيلاروسية أو الشركات الحكومية فيها إلى الأوليغارشيين الروس، لكن قد تكون التنازلات الأقل كلفة كافية لجعل موسكو تنسى خطابه المعادي لروسيا خلال حملته الانتخابية.بعيداً عن رهان لوكاشينكو، يستحق الدور الألماني في قضية نافالني النقاش، فقد طرحت ميركل تشخيصها لما حصل بدل أن يتولى أطباء نافالني أو وزير الصحة أو الشرطة هذا الدور، إذ تدرك زعيمة ألمانيا أهمية الحفاظ على علاقات بلدها مع روسيا، بغض النظر عن سلوكها، لأن ألمانيا تتحمل مسؤولية الوضع في أوروبا أكثر من فرنسا أو الولايات المتحدة. تولّت ميركل توجيه الاتهامات لأنها لا تريد أن يعتبرها الآخرون مقرّبة من بوتين أو الكرملين ولا تحبذ أن تتهم أطراف أخرى روسيا باستهداف نافالني في حين تحرص هي على إتمام مشروع "نورد ستريم 2".بعبارة أخرى، أرادت ميركل أن تكون في موقع الهجوم والدفاع معاً، حيث يجبرها دفاعها عن "نورد ستريم 2" على اتخاذ موقف دفاعي في مطلق الأحوال، لكنّ امتناعها عن الدور الهجومي كان سيشكك بمواقفها المبدئية من بوتين مقارنةً بأمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ ونائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، فقد حرص الاثنان على اتخاذ مواقف حاسمة من تسمم نافالني، بغض النظر عن تحركات ميركل.حين أعلنت ميركل شخصياً أن نافالني تسمّم وأوحت بتورط الدولة الروسية، استبقت المستشارة الألمانية بهذه الطريقة الانتقادات التي كان سيوجهها سياسيون غربيون آخرون لعلاقتها مع بوتين.في ما يخص العقوبات المادية التي تواجهها روسيا، يصعب أن تُفرَض عليها عقوبات مستهدفة كتلك التي اختارتها بريطانيا على خلفية تسميم ليتفينينكو وسكريبال لأن الغرب لم يحصل على أي أسماء ومن المستبعد أن يتلقى أدلة ملموسة في هذه القضية. قد تقرر "مؤسسة مكافحة الفساد" التي ينتمي إليها نافالني إجراء تحقيقها الخاص ثم تتقاسم نتائجها واستنتاجاتها مع الغرب، لكنّ هذه الخطوة ستكون أقصى ما يستطيع الغرب توقعه.في ملفات ضم شبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا، أدركت جميع الأطراف المعنية مسؤولية الدولة الروسية، أو عناصر بارزة في النظام، وهذا ما يبرر العقوبات الاقتصادية، فحين تحصل جرائم قتل فردية، يلجأ الغرب دوماً إلى أداة العقوبات المستهدفة.لكن في قضية تسمم نافالني، يزيد احتمال فرض عقوبات على نطاق أوسع بسبب صعوبة تحديد المذنبين الحقيقيين، ومن المتوقع أن تكون هذه الخطوة مؤلمة جداً في ظل الاضطرابات الاقتصادية التي يسببها فيروس كورونا المستجد، ومع ذلك قد تجد أوروبا نفسها مضطرة لاتخاذ خطوة مماثلة. * «ألكسندر بونوف»
مقالات
تداعيات تسمم نافالني على روسيا
14-09-2020